الكويت... صيف ساخن ينتظر «الحكومة الـ 46»

انتخابات مجلس الأمة لم تأتِ بالتغيير المنشود

متخب كويتي يدلي بصوته في انتخابات مجلس الأمة 2024 (كونا)
متخب كويتي يدلي بصوته في انتخابات مجلس الأمة 2024 (كونا)
TT

الكويت... صيف ساخن ينتظر «الحكومة الـ 46»

متخب كويتي يدلي بصوته في انتخابات مجلس الأمة 2024 (كونا)
متخب كويتي يدلي بصوته في انتخابات مجلس الأمة 2024 (كونا)

جاءت رياح انتخابات مجلس الأمة الكويتي (البرلمان)، في الرابع من أبريل (نيسان) 2024، بما لا تشتهي سفينة الحكومة ولا سفن أخرى، كانت تنتظر أن يهبّ الكويتيون لتغيير التركيبة السياسية التي تحكم السلطة التشريعية منذ نحو عقدٍ من الزمان، وتقاسمت خلالها مع الحكومة الاضطراب السياسي الذي تشهده البلاد. إذ كان التغيير طفيفاً، ولا يعتدّ به. ذلك أنه على الرغم من أن التقديرات الأولية أشارت إلى أن نسبة التغيير في انتخابات 2024 بلغت 22 في المائة، فإن النسبة الحقيقية كانت في حدود 10 في المائة فقط، مع بقاء 90 في المائة من التركيبة البرلمانية السابقة، إذا جرى احتساب أن ثلاثة نواب سابقين لم يرغبوا أصلاً في خوض السباق الانتخابي، ونائب رابع شطب ترشحه هو مرزوق الحبيني، ومع عودة ثلاثة نواب سابقين للقبة البرلمانية: نائبان من مجلس 2016 وهم صالح عاشور وأحمد الفضل، ونائب واحد من مجلس 2020 هو الدكتور عبيد الوسمي. وبالتالي، لم يشمل التغيير في هذه الانتخابات سوى دخول 8 نواب جدد فقط من أصل 50 نائباً.

داخل قاعة مجلس الامة (كونا)

الانتخابات الكويتية السابقة جاءت على وقع حلّ برلمان عام 2023 (بعد عمر لم يتجاوز 9 أشهر)، لسبب لا يتصل مباشرة بالعلاقة المضطربة بالحكومة، بل إن الحل وهو الأول من نوعه من حيث التسبيب جاء «بناء على ما بدر من مجلس الأمة من تجاوز للثوابت الدستورية في إبراز الاحترام الواجب للمقام السامي وتعمد استخدام العبارات الماسة غير المنضبطة»، حسبما جاء في مرسوم الحلّ رقم 16 لسنة 2024 في 15 فبراير (شباط) الماضي. ومنذ كان ولياً للعهد، دأب الشيخ مشعل الأحمد الصباح، أمير الكويت على تأكيد «تصحيح المسار». ويوم 20 ديسمبر (كانون الأول) الماضي وجه انتقادات لاذعة لعمل السلطتين التشريعية والتنفيذية في أول خطاب له بعد أدائه اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة أميراً للبلاد، متهماً إياهما بالتواطؤ في الإضرار بمصالح البلاد.

مفاجآت انتخابية

المفاجأة الأولى التي حملتها الانتخابات تمثلت في أن العملية الانتخابية أسفرت عن عودة كامل الوجوه القديمة، وإضافة وجوه أخرى كانت تعدّ من «الصقور». بل إن النائب المتهم بإطلاق التوصيفات التي صدر بسببها مرسوم الحلّ، وهو عبد الكريم الكندري، حقق فوزاً ساحقاً في الدائرة الثالثة، وجاء في المركز الأول بعدد أصوات بلغ 9428 صوتاً.

أما المفاجأة الثانية، فكانت نسبة الإقبال على الاقتراع، إذ فاقت النسبة الـ62 في المائة. ومع نسبة مشاركة عالية بلغت 62.10 في المائة من الناخبين البالغ عددهم 518 ألفاً و365 ناخباً من أصل 835 ألفاً يحق لهم التصويت - أكثر من نصفهم من النساء - رغم الظروف المصاحبة لإجراء الانتخابات ووقوعها في أواخر شهر رمضان، وأيضاً مع تكرار توجه الناخبين للاقتراع، وسط فقدان الأمل بحدوث تغيير حقيقي، بدا أن النسبة العالية أبرزت قلقاً على مصير التجربة الانتخابية في الكويت، ورغبة في تأكيد التمسك بها، مع تكرار عمليات حلّ المجلس. ثم إنها أظهرت أيضاً قلقاً آخر بشأن إجراءات سحب الجناسي، وهو موضوع اختارت الحكومة طرحه بموازاة الحملات الانتخابية، بعدما أعلنت عن عزمها على مكافحة مزوري ومزدوجي الجنسية، ودعت الجمهور للإبلاغ عنهم. هذا الموضوع شكل في الواقع القضية الأساسية للانتخابات. وبحسب أحد النواب الفائزين لـ«الشرق الأوسط»، فإن الكويتيين خاضوا انتخابات 2024 من دون قضية مركزية، إلى أن جاءت التصريحات الحكومية بشأن مكافحة تزوير الهوية الوطنية (الجنسية) وملاحقة المزدوجين، لكي تشدّ العصب في اتجاهين متناقضين: الاتجاه الأول الجمهور الذي كان يخشى استغلال قضايا الهوية الوطنية للعقاب السياسي، وهؤلاء أكثرهم من الاتجاهات القبلية. والاتجاه الثاني الذي أظهر تشدداً وحزماً نحو حماية الهوية الوطنية ومكافحة المزورين.

لقد أنتجت الانتخابات أيضاً مجلساً تهيمن عليه المعارضة التي حافظت على مقاعدها الـ29 من أصل 50، وإن كانت معارضة مفتتة وغير متجانسة، وسيكون بإمكان الحكومة أن تشدّ بعض الكتل والمستقلين نحوها. بل إن الخلافات بين أعضاء المجلس تبدو أحياناً أقوى مما هي عليه مع الحكومة، أضف إلى ذلك أنه عادة ما يمثل قطاع واسع من النواب الانقسام السياسي الأكبر الذي تقوده أقطاب بارزة في الدولة.

خريطة المجلس

لقد تقاسم مجلس الأمة بالمناصفة: الحَضَر (25 نائباً)، والقبائل (25 نائباً). وجاء الإسلاميون السنة بنصيب وافر (8 مقاعد للتيار السلفي)، ومقعد واحد من أصل ثلاثة للحركة الدستورية الإسلامية (حدس – الإخوان المسلمين) مع وجود نواب مقربين لها في العديد من الدوائر. وحصل الإسلاميون الشيعة على 3 نواب: «نائبان للتآلف الإسلامي»، ونائب واحد لـ«تجمع العدل والسلام». ولوحظ أن الانتخابات الأخيرة أسوة بالانتخابات التي سبقتها شهدت تراجعاً في مزاج الناخب الشيعي في الكويت لصالح دعم مرشحين ليبراليين أو مستقلين، مع تمثيل المرأة الوحيدة في المجلس لدورتين، الدكتورة جنان بوشهري، كما حصل نائبان شيعيان على التمثيل لأول مرة، وهما من فئة الشباب: محمد جوهر حيات (ليبرالي)، وباسل البحراني، الذي ينتمي إلى التكتل الشعبي الذي يقوده النائب السابق مسلم البراك (يمثل هذا التكتل حالياً نائبان، هما البحراني، ومحمد الدوسري)، وهكذا يصبح مجموع النواب الشيعة في هذا المجلس ثمانية.

مشاركة واسعة في الافتراع (كونا)

العواصف المقبلة

نتيجة هذه الانتخابات ظهرت بوضوح في قرار رئيس الحكومة السابق، الدكتور محمد صباح السالم، الاعتذار عن تشكيل الحكومة المقبلة، وذلك بعد أول تجربة له في قيادة «الكابينة» الوزارية، وفي أعقاب موجة تفاؤل وترحيب لم يسبق لهما مثيل، استقبلته يوم تعيينه رئيساً للوزراء في 4 يناير (كانون الثاني) 2024. لكن المدة التي أمضاها رئيساً للوزراء لم تتجاوز 100 يوم.

وعلى الأثر جرى تعيين رئيس وزراء جديد، يتولى قيادة الحكومة لأول مرة، هو الشيخ أحمد عبد الله الأحمد الصباح. وفي حال تشكيل حكومته الجديدة سيصبح الشيخ أحمد العبد الله، رئيس الوزراء الحادي عشر في تاريخ الكويت، وستحمل حكومته المقبلة الرقم 46 في تاريخ الحكومات منذ نحو 62 سنة هو عمر الحكومات الكويتية.

ولكن إذا نظرنا إلى الصورة القريبة، فإن الحكومة العتيدة ستكون الرابعة في ظرف ثلاث سنوات فقط. ويكفي أن نشير إلى أنه خلال سنتين جرى تكليف ثلاثة رؤساء للحكومات، كما أن الرئيس الأول، وهو الشيخ أحمد النواف، مكث في منصبه نحو سنة ونصف شكّل خلالها أربع وزارات. ومنذ عام 2022 تم انتخاب ثلاثة مجالس نيابية في غضون سنتين. ومنذ عام 2020، نظّمت أربع انتخابات برلمانية في الكويت، وحُلّ مجلس الأمة السابق 2023 في فبراير (شباط) الماضي، بعد نحو تسعة أشهر فقط على بدء أعماله.

فضلاً عما سبق، فإنه قبل أسبوعين من موعد افتتاح أعمال مجلس الأمة، وتقديم الحكومة تشكيلتها للمجلس، توعّدت مجموعة من النواب كلاً من رئيس الحكومة ووزير الداخلية بالاستجواب، على خلفية توقيف مرشح سابق بسبب تصريحات منسوبة إليه تمثّل تجاوزاً على الذات الأميرية، بحسب النيابة. غير أنه من الواضح أن هذه الحادثة، ومعها قضايا ملاحقة مزوري الجنسية، تمثلان «رأس جبل الجليد» في الثقة المعدومة بين النواب والحكومة، وخاصة أن علاقة المجلس السابقة برئيس الحكومة الجديد لم تكن على وفاق حين كان وزيراً في الحكومات السابقة.

أنتجت الانتخابات مجلساً تهيمن عليه

المعارضة

التي حافظت

على مقاعدها

الـ29 من أصل 50

آفاق المرحلة المقبلة

بالنسبة لآفاق المرحلة المقبلة، توّقع المحلل السياسي الكويتي الدكتور عايد منّاع في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن تشهد العلاقة بين المجلس الجديد والحكومة المقبلة «شدّاً وجذباً» في المرحلة المقبلة. ويلاحظ الدكتور منّاع، أن رئيس الوزراء الجديد يمتلك سجلاً من العلاقات السابقة بالبرلمان، إذ سبق له شغل مناصب وزارية متعددة كالمالية والمواصلات والنفط والإعلام والصحة. ولكن في المقابل أيضاً، كان يشوب هذه العلاقة كثير من الشوائب، وكانت لكثرة من نواب البرلمان تحفظات عليه في المرحلة السابقة قبل أن يكلف رئاسة الوزارة. ومع أن الرئيس الجديد القادم من القطاع الخاص، يمتلك تأهيلاً جيداً، فإن العلاقة المستقبلية بين رئيس الوزراء وحكومته، وبين البرلمان، تعتمد على السياسة التي ستتبناها الحكومة في علاقتها بالبرلمان، وعلى الخطوات التي ستقوم بها.

أما عما يتعيّن على رئيس الوزراء القيام به، فهنا يقول الدكتور عايد مناع «يتعيّن على رئيس الوزراء الجديد، كي يتجنب المواجهة مع البرلمان، أن يتعامل معه بطريقة مهنية تتضمن تلبية مطالب النواب وفقاً للقانون وبأسرع طريقة ممكنة. وعدا ذلك فإن العلاقة ستشهد مرحلة من التجاذب لكنها قد لا تصل إلى القطيعة إذا ما أجاد رئيس الوزراء كيفية التعامل وامتصاص ردود الفعل، وقدّم رؤى حقيقية من القيادة السياسية لتحسين الأوضاع الداخلية في البلد من تحسين رواتب المواطنين وتنظيم مصادر الدخل وضبط الأمن الداخلي وتجنب استفزاز المجتمع بملفات معينة، مثل قضايا التجنيس وغيرها».

 

الدكتور عايد المناع (الشرق الأوسط)

من هو رئيس الوزراء المقبل؟

رئيس الوزراء الجديد الشيخ أحمد عبد الله الأحمد الصباح (مواليد 5 سبتمبر (أيلول) 1952)، هو الابن الخامس للشيخ عبد الله الأحمد الجابر الصباح، الابن الأكبر لحاكم الكويت العاشر الشيخ أحمد الجابر الصباح. وهو مثل سلفه الشيخ محمد صباح السالم، متخصص في الاقتصاد، إذ التحق بجامعة إيلينوي في الولايات المتحدة؛ حيث درس تمويل البنوك والاستثمارات، وحصل على درجة البكالوريوس في عام 1976. بعد ذلك، في عام 1978 عمل في المركز المالي الكويتي، ثم انتقل إلى العمل في البنك المركزي الكويتي، واستمر في هذا المنصب حتى عام 1987. وكان في ذلك الوقت يشغل منصب مدير إدارة الرقابة المصرفية بدولة الكويت.

في عام 1987 تولى الشيخ أحمد عبد الله الأحمد الصباح منصب رئيس مجلس إدارة بنك برقان الكويتي، واستمر في هذا المنصب حتى عام 1998. أما أول منصب وزاري يتولاه فكان تعيينه وزيراً للمالية ووزيراً للمواصلات يوم 13 يوليو (تموز) 1999. بعدها، في 14 فبراير 2001 جرى تعيينه وزيراً للمواصلات مجدداً. وفي 14 يوليو 2003 عيّن وزيراً للمواصلات ووزيراً للتخطيط ووزير دولة لشؤون التنمية الإدارية. وفي 15 يونيو (حزيران) 2005 عيّن وزيراً للمواصلات ووزيراً للصحة. ومن ثم عُين في 9 فبراير 2006 وزيراً للصحة. وفي 10 يوليو 2006 أعيد تعيينه وزيراً للصحة مرة أخرى.

صدام مع البرلمان

لقد شهدت مسيرة الشيخ أحمد صداماً مع البرلمان، حين قُدّم له في 19 فبراير 2007 استجواب من عدد من أعضاء مجلس الأمة، وتقرر تقديم طلب طرح ثقة فيه. عندها أقدمت الحكومة على تقديم استقالتها في 4 مارس (آذار) 2007، ورفض الشيخ أحمد الصباح العودة إلى الحكومة التي تلتها في أي منصب وزاري آخر. بيد أنه عاد يوم 9 فبراير 2009 ليشغل منصب وزير النفط، ثم في 29 مايو (أيار) من العام نفسه أسندت إليه أيضاً حقيبة وزارة الإعلام بجانب وزارة النفط، وظل بهذا المنصب حتى 8 مايو 2011 عندما شُكّلت حكومة جديدة ولم يكن ضمن الوزراء بها. ولاحقاً، في 20 سبتمبر 2021 صدر مرسوم بتعيينه رئيساً لديوان ولي العهد بدرجة وزير لمدة أربع سنوات.


مقالات ذات صلة

كاظمة الكويتي يتعرض «للخداع» بعد مواجهة ودية في مصر

رياضة عربية صورة متداولة للمباراة بين كاظمة وفريق ادعى أنه تليفونات بني سويف

كاظمة الكويتي يتعرض «للخداع» بعد مواجهة ودية في مصر

خاض الفريق الأول لكرة القدم في نادي كاظمة الكويتي مباراة ودية، خلال معسكر تدريبي في مدينة الإسكندرية المصرية، فاز بها 7-1، لكنه اكتشف فيما بعد تعرضه للخداع.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
رياضة عالمية خوان أنطونيو بيتزي مدرب الكويت الجديد (رويترز)

الأرجنتيني بيتزي مدرباً لمنتخب الكويت

أعلن الاتحاد الكويتي لكرة القدم رسمياً تعاقده مع المدرب الأرجنتيني خوان أنتونيو بيتزي لمدة عام واحد.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
رياضة عربية عبد الله الشاهين رئيس الاتحاد الكويتي لكرة القدم (الشرق الأوسط)

الشاهين يطلب التنحي من رئاسة الاتحاد الكويتي لكرة القدم

أعلن عبد الله الشاهين، رئيس الاتحاد الكويتي لكرة القدم، طلبه التنحي عن منصبه وفقاً لما يكفله له النظام بحسب (المادة 35 الفقرة العاشرة).

«الشرق الأوسط» (الكويت )
الخليج الكويت تُوقف العمل بجوازات «البدون» (الشرق الأوسط)

«الداخلية» الكويتية تؤكد سحب جوازات «البدون»

أكدت وزارة الداخلية الكويتية وقف العمل بجوازات السفر التي تستخدمها فئة غير محددي الجنسية «البدون» في البلاد.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
الخليج استمرار حبس «شبكة إرهابية» خططت لاستهداف الشيعة والقوات الأميركية في الكويت

استمرار حبس «شبكة إرهابية» خططت لاستهداف الشيعة والقوات الأميركية في الكويت

قرر قاضي التجديد في الكويت، استمرار حبس «شبكة إرهابية» تنتمي لتنظيم «داعش» الإرهابي كانت تخطط لاستهداف الشيعة والقوات الأميركية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
TT

اختيار هاريس قد لا يكفي لتجنيب الديمقراطيين الهزيمة

كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)
كمالا هاريس... أمام الأختبار السياسي الأكبر (رويترز)

في حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية، ثمة انزياح الجمهوريين إلى سياسات انعزالية خارجياً وحمائية اقتصادية داخلياً، معطوفة على سياسات اجتماعية يمينية متشددة، قد يكون من الصعب إقناع بعض الشارع بخطورتها. وفي المقابل، ما لم يقدم الديمقراطيون حلولاً للمشاكل التي أبعدت ولا تزال تبعد، شريحة واسعة من أبناء الطبقة العاملة إلى التصويت مرتين لمصلحة دونالد ترمب، فإنهم سيفقدون السيطرة على حملتهم.

الأمر لا يقتصر على أفراد الطبقة العاملة البيضاء الذين غادروا الحزب الديمقراطي بأعداد كبيرة خلال العقود الأخيرة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي أن ترمب يُعد لاجتذاب الناخبين السود واللاتينيين من الطبقة العاملة بنسب تاريخية محتملة. ومع اعتناق ترمب ومرشحه لمنصب نائب الرئيس، جي دي فانس، لسنوات، سياسات «شعبوية» فإنهما سعيا أيضاً إلى استخدام حتى بعض الانتقادات «التقدمية» للسوق الحرة، ولو كانا سيخدمان الأثرياء في نهاية المطاف.

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

ولاغتنام هذه الفرصة، قد يفكر الديمقراطيون في قراءة كيف تمكّن حزبهم من التعافي من الأزمات الخطيرة في ماضيهم. ومعلوم أنه في حين كانت الانتخابات الماضية تدور حول السياسات، وليس التدهور الذهني للمرشحين والتشكيك بقدرتهم على الفوز، كما كان الحال مع بايدن في هذه الانتخابات، فإنهم لم ينجحوا إلا عندما قدّموا أجندة اقتصادية، تروّج لرأسمالية أكثر أخلاقية وأقل ضراوة وقسوة.

توحد حول «أجندة تقدمية»يقول مايكل كوزين، أستاذ التاريخ في جامعة جورجتاون، إنه منذ القرن التاسع عشر، لم ينجح الديمقراطيون في قلب هزائمهم، إلّا بعد توحيد صفوفهم خلف أجندة، قدمت مساراً مختلفاً لمعالجة الأزمات، من «الكساد الكبير» إلى التصدي للعنصرية، وكسر الخطاب الشعبوي - الذي هدف إلى كسب تأييد المزارعين وعمال المناجم - ومن ثم طرحوا حلولاً بشأن العمل والضمانات الاجتماعية والصحية والمال.

في العشرينات من القرن الماضي، دارت أزمة الديمقراطيين حول قضايا الثقافة والعِرق بدلاً من تحديد من فاز ومن خسر فيما كان آنذاك اقتصاداً مزدهراً. ولقد تطلب الأمر أسوأ كساد في تاريخ البلاد، لإعطاء الديمقراطيين الفرصة لوضع هذه الاختلافات وراء ظهورهم. وعام 1932، تحت قيادة فرانكلين روزفلت، فازوا بغالبية كبيرة في الكونغرس وأنشأوا أكبر توسع في السلطات المحلية للحكومة الفيدرالية في تاريخ الولايات المتحدة.

وبعدها، في عام 1968، بدا أن انسحاب ليندون جونسون من السباق أشبه بانسحاب جو بايدن هذا العام... إذ كان الرجلان يخطّطان للترشح لإعادة الانتخاب، لكن المعارضة الشرسة داخل حزبهما أثنتهما عن ذلك. واليوم، كما حصل سابقاً، أخذ نائب الرئيس مكانه على رأس القائمة. غير أن معارضة عودة جونسون كانت بسبب أكثر أهمية بكثير من القلق بشأن أداء الرئيس في مناظرة، أو على قدراته الجسدية والمعرفية التي قسا عليها الزمن. كان الخلاف يومذاك حول «حرب فيتنام» يقسم الديمقراطيين، والأميركيين عموماً، وهو ما أدى إلى خسارتهم أمام الجمهوريين وفوز المرشح الجمهوري ريتشارد نيكسون.

اصطفاف التيار التقدمياليوم، باستثناء الحرب في غزة، وانتقاد التيار التقدمي لإسرائيل، فإن الديمقراطيين متّحدون بشكل ملحوظ حول القضايا التي ركّز عليها بايدن في حملته الانتخابية. وبدا أن تمسك هذا التيار به والاصطفاف اليوم وراء نائبته كامالا هاريس، دليل على إجماع على أن «خطر» إدارة ترمب أخرى قد طغى على استيائه منهما. وفي غياب أي استثناءات تقريباً، يتفق ممثلوهم مع أعضاء الحزب في مجلسي الشيوخ والنواب، على تشجيع العمال على تشكيل النقابات ويريدون القيام باستثمارات جادة في مجال الطاقة المتجددة، ويؤيدون بالإجماع زيادة الضرائب على الأغنياء وتسليح أوكرانيا.

بيد أن تغير موقف «التيار التقدمي» بشأن هاريس - التي لطالما تعرضت للانتقادات منه - يعكس إلى حد كبير الديناميكيات السياسية المتغيرة داخل الحزب الديمقراطي نفسه. وحقاً، منذ التراجع المطّرد لدور اليساري المخضرم بيرني ساندرز وتحوّله إلى شيء من الماضي، وكون النجوم التقدميين مثل النائبة ألكساندريا أوكازيو كورتيز، ما زالوا أصغر من أن يتمكنوا من الترشح للرئاسة، لا يوجد بديل واضح عند هذا التيار. وأيضاً، مع تهميش أولويات «التقدميين» التشريعية السابقة كالتعليم الجامعي المجاني والرعاية الصحية الشاملة، واستمرار تعثر القضايا الحالية كالحرب في غزة من دون نهاية واضحة، تقلصت فرص «تيارهم» في لعب دور أكبر داخل الحزب.

ولكن إذا أعطى انسحاب بايدن الديمقراطيين فرصة لإحياء حظوظهم فيما بدا لفترة وكأنه سباق خاسر، فإنه قد لا يفعل ذلك الكثير لمعالجة الأزمة الأعمق التي واجهوها منذ أعاد ترمب تشكيل الحزب الجمهوري.

الديمقراطيون تجنّبوا الانقسامفإجماع الديمقراطيين على الدفع بكامالا هاريس خياراً لا بد منه، قد يكون جنبهم على الأقل خطر الانقسام. ورغم كونها خطيبة مفوهة، على خلفيتها بوصفها مدعية عامة وسيناتوراً سابقاً عن كاليفورنيا - كبرى الولايات الأميركية وأهمها - يظل العديد من الأميركيين ينظرون إليها على أنها «ليبرالية» و«تقدمية» تهتم بشدة بالحقوق الإنجابية والتنوع العرقي. وهم أيضاً يأخذون عليها أنها لم تظهر، حتى الآن على الأقل، قدرتها على التواصل بالقوة نفسها مع ناخبي الطبقة العاملة الذين يعتقدون أن لا الحزب الديمقراطي ولا الحكومة أظهرا الاهتمام نفسه بمشاكلهم الاقتصادية... وخوفهم من أن حياة أطفالهم قد تتعرض للخطر.

واستناداً إلى استطلاعات رأي تشير منذ عدة سنوات إلى أن أغلب الناس يعتقدون أن الولايات المتحدة «تسير على المسار الخطأ»، استخدم جي دي فانس، نائب ترمب، هذه المخاوف التي عرضها في كتابه «مرثية هيلبيلي» لتصعيد الخطاب الشعبوي، الذي عدّه البعض دعوة إلى إعادة عقارب الزمن عبر إحياء الصناعات المنقرضة، بدلاً من الاستثمار في المستقبل.

صعود المظالممع هذا، إذا اكتفت هاريس بالترويج والدفاع عن إنجازاتها وبايدن فقط، فقد تفشل في معالجة هذه المخاوف، وربما تسمح لترمب بالفوز مرة أخرى. الاعتراف باللامساواة بين الجنسين وقبول «الهويات» الجنسية، ونقد الاستعمار والعنصرية وكراهية الأجانب، وصعود حركة حماية البيئة، كلها مظالم وتحديات لشرائح واسعة تعتقد أنها تتعرّض للخطر وتدعو الساسة للعودة إلى الأنماط القديمة دفاعاً عنها. كما أن اضطرابات أخرى لعبت أيضاً دوراً في صعود هذه المظالم، من تغير المناخ والتحديات الاقتصادية التي فرضها، واستمرار التفاوت في الدخل، وموجات المهاجرين إلى أوروبا والولايات المتحدة، والانهيار الاقتصادي عام 2008، وجائحة «كوفيد-19» التي ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصادات في جميع أنحاء العالم.

ومع تصاعد الشكوى من الهجرة والمهاجرين والتغير الديموغرافي والعولمة في كل مكان، يهدّد خطاب «الشعبوية» الجديد الديمقراطيات الليبرالية القديمة. وبدا أن احتضان الناخبين الأميركيين لترمب، يشبه تحول الناخبين الفرنسيين نحو حزب «التجمّع الوطني» اليميني المناهض للمهاجرين بزعامة مارين لوبان، الذي يدّعي أنه يمثل «فرنسا الحقيقية»، ومعه صعود العديد من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وفق الكاتب الأميركي إدواردو بوتر.

فشل ديمقراطي

مع ذلك، فشل الديمقراطيون منذ عهد باراك أوباما في تقديم برنامج سياسي متماسك حول الوجهة التي يريدون أخذ أميركا إليها، والتكلم عن أولئك الذين يكافحون من أجل تغطية نفقاتهم، وهذا، بصرف النظر عن دفاعهم عن مصالح الطبقة الوسطى والتسامح مع الاختلافات الثقافية والتحرك نحو اقتصاد أكثر خضرة.

ومع أن ترشيح كامالا هاريس قد يعطيهم الفرصة للبدء في تغيير تلك الصورة، يظل الخطر كامناً في أنهم قد يعتقدون أن الأزمة الأخيرة التي مروا بها، أمكن حلها بتغيير المرشحين من دون معالجة حالة السخط التي تعصف بالبلاد. وهذا ما بدا من خطابهم الذي عاد للتشديد على أن المهمة الرئيسية هي منع عودة ترمب. فقد التحمت الأصوات الديمقراطية في خطاب شبه موحّد لتصوير الانتخابات على «أنها بين مجرم مُدان لا يهتم إلا بنفسه ويحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء بما يخص حقوقنا وبلدنا، ومدعية عامة سابقة ذكية ونائبة رئيس ناجحة تجسد إيمانناً بأن أفضل أيام أميركا لا تزال أمامنا»، على ما كتبته الثلاثاء، هيلاري كلينتون في مقالة رأي في «نيويورك تايمز».

ربما لا حاجة إلى التذكير بأن خسارة كلينتون نفسها للسباق الرئاسي أمام ترمب عام 2016، كان بسبب إحجام ناخبي ولايات ما يعرف بـ«حزام الصدأ» - حيث قاعدة العمال البيض - عن تأييدها، بعدما خسر مرشحهم بيرني ساندرز الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي، الذي كان ينظر إليه على أنه مرشح واعد للدفاع عن حقوق الطبقة العاملة، ومنحهم أصواتهم لترمب الذي نجح في مخاطبة هواجسهم.

فرصة هاريس

اليوم، في ضوء انتزاع هاريس - إلى حد بعيد - بطاقة الترشيح قبل انعقاد مؤتمر الحزب في 19 أغسطس (آب) المقبل، ما يوفر عليها خوض انتخابات تمهيدية جديدة والفوز فيها، فإنها تحظى بفرصة لإعادة تقديم نفسها. وخلال الأيام الأخيرة، تعززت حملتها بفضل زيادة الحماسة والدعم وجمع التبرعات الذي حقق أرقاماً قياسية خلال 48 ساعة، وكل ذلك كان مفقوداً في حملة بايدن وسط مخاوف بشأن عمره وصحته.

لكن الحزب ما زال منقسماً حيال الرد على هجمات الجمهوريين، إذ يشعر البعض بالقلق من أن الغرق في مناقشات حول العنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يستهلك حملة هاريس لدى انشغالها بمخاطبة جمهور الناخبين الأوسع. ولذا تصاعدت الأصوات الديمقراطية الداعية إلى جسر الهوة إزاء الهجرة والجريمة والتضخم، التي يركز الجمهوريون عليها، بينما يتساءل آخرون، عمّا إذا كان الكلام الصارم عن الإجهاض والضرائب والعنصرية، وغير ذلك من بنود جدول الأعمال التي يسعى الديمقراطيون بشدة إلى إعادتها إلى قمة الأولويات العامة، هو الطريقة الأفضل لخوض السباق ضد ترمب. الديمقراطيون متّحدون اليوم حول القضايا التي ركّز عليها بايدن

 

لطّف الجمهوريون خطابهم المتشدد... بينما يبحث الديمقراطيون عن نائب لهاريس

> لا يخفى، لدى تفحّص المشهد الانتخابي الأميركي، أن الجمهوريين سعوا للاستفادة من مكاسب استطلاعات الرأي مع الأميركيين الذين كانوا مترددين في السابق تجاه دونالد ترمب، وخاصة الناخبين غير البيض. إذ أعادوا تنظيم مؤتمرهم الوطني للتأكيد على «الوحدة»، بعد محاولة الاغتيال التي تعرّض لها ترمب، وتقديمه كرجل دولة وليس محارباً للثقافة والعرق. وتضمن المؤتمر كلمات دحضت الاتهامات بالعنصرية ضد ترمب، إلى جانب عدد من المتكلمين الذين أكدوا على خلفياتهم المهاجرة وعلى أن الجمهوريين مهتمون فقط بأمن الحدود. وبينما يقلّب الديمقراطيون الأسماء لاختيار نائب الرئيس على بطاقة الاقتراع مع كمالا هاريس، برز عدد من الأسماء على رأسهم جوش شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا المتأرجحة. وحظي شابيرو، وهو يهودي أبيض،

ترمب يهاجم هاريس خلال مهرجان انتخابي في ولاية نورث كارولينا (آب)

بالاهتمام كونه حقق فوزاً كبيراً في انتخابات عام 2022، متغلباً على سيناتور يميني متشدد أنكر فوز بايدن في انتخابات عام 2020، ويلقى دعماً كبيراً من الرئيس السابق باراك أوباما. أيضاً، برز السيناتور مارك كيلي (من ولاية أريزونا المتأرجحة أيضاً) الذي عُدّ منافساً محتملاً في مواجهة نائب ترمب، السيناتور جي دي فانس (من ولاية أوهايو). ويقف الرجلان على النقيض في العديد من قضايا السياسة الخارجية، وخصوصاً فيما يتعلق بمسألة مساعدة أوكرانيا. وبدا كيلي مرشحاً مثالياً ضد فانس؛ للموازنة بين الحفاظ على الولايات المتأرجحة، والحفاظ على سياستهم الخارجية. واتهمه بأنه «سيتخلى» عن أوكرانيا لصالح روسيا. وأردف كيلي قائلاً، إنه «أمام ما قد يفعله ترمب وفانس للتخلي عن حليف، فهذا من شأنه أن يؤدي إلى عالم أكثر خطورة بكثير». ورغم رفضه تأكيد أن يكون من بين المرشحين، قائلاً إن الأمر يتعلق بهاريس، «المدعية العامة التي تتمتع بكل هذه الخبرة، وترمب الرجل المدان بـ34 جناية ولديه خيار بشأن المستقبل، قد يعيدنا إلى الماضي حين كنا أقل أماناً».