الحديث هنا سياسي وليس طائفيا، واستخدام المصطلحات المعبرة عن النزاعات القائمة وصراعات القوى ضرورة للتوضيح وإن التبست بمعانٍ طائفية، بخاصة ونحن قد شهدنا بعد ما كان يعرف بالربيع العربي تصاعدا للخطابات الأصولية من جماعات الإسلام السياسي إلى فلول «القاعدة» ما شكّل خطواتٍ للوراء في مسار التقدم والرقي الحضاري وتبعتها خطواتٍ تلوّنت بالطائفية المسلحة والقاتلة، ولن تكون «داعش» التي تحوّلت إلى «خلافة» نهاية المطاف التقهقري في الدول العربية.
ظلّت الجمهورية الإسلامية في إيران تقود بوعي وتخطيطٍ استراتيجي استخدام الطائفية كسلاح سياسي ولم تلبث أن استخدمتها كسلاح دموي قاتل، فعلت ذلك في العراق ما بعد 2003 من خلال الأحزاب السياسية الشيعية، ومن خلال دعم حركات العنف الديني السنية، وكانت تعمل ذلك مشاغبة للقوات الأميركية في العراق، وهي جاءت بنظام نوري المالكي إلى السلطة ودعمت تحوله السريع إلى نظامٍ طائفي صارخ يستهدف المكوّن السني العراقي بكل ما يستطيع بالتهميش السياسي، ثم باستخدام القوات المسلحة ضده، وصنعت الأمر ذاته في لبنان حين أمرت حزب الله اللبناني التابع لها باقتحام بيروت بقواته ومسلحيه، وقد دعمت تنظيم الحوثي في اليمن ليكون خنجرا لها ضد شافعية وسنة اليمن، وضد المملكة العربية السعودية.
تمّ هذا كلّه قبل ما كان يعرف بالربيع العربي، وبعده استمرت في استخدام الطائفية كسلاح قاتل في كل تلك البلدان، وبخاصة بعد الأزمة السورية بحيث أيدت نظام بشار الأسد في قتل شعبه بكافة فئاته وأديانه وطوائفه باستثناء الطائفة التي ينتسب لها، ومعلومٌ أن أكثرية الشعب السوري هم من المكون السني، وألحقت ذلك التأييد بإرسال المجاميع الطائفية المقاتلة للتدخل في سوريا من لبنان كحزب الله ومن العراق بالكثير من الكتائب والفصائل والمقاتلين ولم تكتف بذلك، بل أرسلت جنودا إيرانيين إلى المعركة هناك.
لقد نبهت تلك السياسات الطائفية والقتل الطائفي الوعي الهوياتي لدى السنة في سوريا وخلقت تنظيمات القاعدة كالنصرة وداعش لتضرب توحد المعارضة السورية المقاتلة ذات الطابع السني الغالب، وانفجر الغضب السني في سوريا ولولا توازناتٍ دولية مجحفة بحق الشعب السوري، لكان النظام السوري في خبر كان.
في العراق تدرّج الغضب السني من تذمرٍ من التهميش، إلى تصفية منهجية لقوات الصحوات في العراق تلك التي استطاعت مواجهة تنظيمات القاعدة، وصولا إلى اعتصاماتٍ ومظاهرات امتدت لشهورٍ طويلة، ولم تتوقف إلا بعد استهداف المالكي لها بالقوات المسلحة، ثم جاء انفجار الغضب السني حين تحالفت العشائر السنية مع بعض المنتسبين للطريقة النقشبندية ومعهم بقايا من ضباط البعث السابقين، وكذلك تنظيم داعش وخسر نظام المالكي الطائفي في أيام مساحاتٍ ضخمة من أرض العراق.
الأكثر حضورا في المشهد الإعلامي لما جرى ويجري في العراق هو تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام الذي تحوّل مؤخرا لخلافة وذلك النشاط الإعلامي الكثيف والمنظم هو جزءٌ مما ورثه من تنظيم القاعدة قبل الاختلاف بينهما، بينما ظل حضور التيارات الأخرى ضعيفا فيما يتعلق بالإعلام على الأقل.
المسار الانحداري والتراجعي نحو التخلف والتقهقر ظاهرٌ في العالم العربي، وبخاصة بعد ما كان يعرف بالربيع العربي، وهو الربيع الأصولي دون شك، فقد أصبحت الأولويات الثقافية تتبع وتناقش وتحلل المفاهيم الأصولية والأولويات الأصولية، وأصبحت أخبار الأصوليين تتصدر وسائل الإعلام في المنطقة والعالم، وأصبحت السياسة مضطرة للتعامل مع هذه الأصولية المتفجرة عنفا وتوحشا، وكلّما ظننا أن هذه الحركات وصلت لقعر التخلف والتوحش كانت قادرة على اختلاق قيعانٍ أكثر دموية وعنفا وتخلفا.
حدّد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في خطابه السياسة السعودية تجاه ما يجري في العراق، وهي سياسة تعتمد على ثلاثة مفاصل رئيسة: الأول، التأكيد على وحدة العراق ورفض أي تدخلاتٍ خارجية في شؤونه الداخلية. الثاني، رفض الطائفية الفاقعة في حكومة العراق ممثلة برئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي ومشايعيه وداعميه، وأن هذه السياسات الطائفية التابعة بالكامل لدولة خارجية هي التي أودت بالعراق إلى هذا التناحر الدامي. الثالث، رفض الإرهاب والجماعات الإرهابية بكل تنظيماتها السنية والشيعية، والتأكيد على محاربتها والتعاون على القضاء عليها مع كل دول المنطقة والعالم.
أتبع الملك عبد الله ذلك بتبرعٍ سخي بلغ نصف مليار دولار للشعب العراقي، الذي شرد من بيوته ونكّل به إن من حكومة المالكي، وإن من تنظيم داعش، على أن تقوم بتوزيع ذلك التبرع المؤسسات الرسمية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة العاملة في العراق ودول الجوار ضمانا لوصول الأموال لمستحقيها وعدم تسرب شيءٍ منها لأي من الطائفيين المتنازعين في العراق.
قامت جماعات الإسلام السياسي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وما تفرع منها من تنظيماتٍ وحركاتٍ وجماعاتٍ وتياراتٍ منذ البدء، على فكرة جامعة بعد سقوط الخلافة العثمانية وهي إقامة جماعة دينية سياسية تقوم بدور الخلافة بعد سقوطها وتعمل على استعادتها من جديد.
إذن ففكرة «استعادة الخلافة» هي فكرة أصيلة وتأسيسية لدى جماعة الإخوان المسلمين وكل ما تفرع عنها من حركات إسلامٍ سياسي كحزب التحرير وتيارات السلفية السياسية كالسرورية وغيرها، وحركاتٍ عنفٍ ديني، كالتنظيم الخاص في الجماعة وورثته من الجماعات الإرهابية في السبعينات ثم في التسعينات في مصر، وكذلك الحركات المقاتلة التي انتشرت في غالب مواضع الاضطرابات من أفغانستان إلى الصومال ومن البوسنة والهرسك إلى الشيشان.
أدبيات الإسلام السياسي قائمة في الأساس على هذه الفكرة الجامعة، فخطب وخطابات حسن البنا وتنظيرات سيد قطب ومفاهيمه التي خلقها والكتابات الإخوانية الأخرى تصب جميعا في تعزيز هذه الفكرة، تنطلق منها وتؤول إليها، وهي فكرة تقوم على أن «نموذج الحكم» يجب أن يكون واحدا في كل زمانٍ ومكانٍ وهو «الخلافة» فقط لا غير، ورغم التطور التاريخي والسياسي الهائل في أنظمة الحكم وإدارة السلطة، فإن هذه التيارات جميعا ترى أنه يجب العودة إلى «نموذجٍ» تحقق في الماضي، والمثير أنهم يشملون بذلك «الخلافة العثمانية» باعتبارها ممثلة لذلك النموذج وهي التي عانى منها وحاربها العرب طويلا!
أخيرا، فإن ارتباك جماعات ورموز الإسلام السياسي تجاه إعلان داعش للخلافة، ومبايعة قائدها خليفة جاء من التشابه لا من الاختلاف، ومن رفضوا تلك الخلافة الساذجة إنما رفضوها لأنها لا تتبع لهم وليس رفضا للمبدأ.
[email protected]
5:4 دقيقه
TT
الغضب السني
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة