فؤاد مطر
أحد كتّاب الرأي والتحليل السياسي في «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة» منذ العام 1990 وقبلها عمل صحافياً وكاتباً في «النهار» اللبنانية و«الأهرام». نشر مجلة «التضامن» في لندن وله 34 مؤلفاً حول مصر والسودان والعراق والسعودية من بينها عملان موسوعيان توثيقيان هما «لبنان اللعبة واللاعبون والمتلاعبون» و«موسوعة حرب الخليج». وثَّق سيرته الذاتية في كتاب «هذا نصيبي من الدنيا». وكتب السيرة الذاتية للرئيس صدَّام حسين والدكتور جورج حبش.
TT

شهر كريم... ومبادرات مستحبّة

عوَّضت بعض المبادرات واللمسات من جانب مقامات سياسية ومرجعيات دينية، سجّلوها في شهر رمضان، ما في النفوس عامةً من احتقانات وما في بعض الديار من مآسي الاقتتال.
ولقد أثلج النفوس اللبنانية التي باتت على شفير الإحباط نتيجة أن التلاعب بات هو المشروع السياسي، وأن الصراع على مغانم حكومة قيد التشكيل يتقدم على النظرة المترفقة بأحوال البلاد والعباد، أن المرجعيات الدينية أخذت وللمرة الأولى بوحدة عيد الفطر، فلم يعد هنالك عيد فطر سُني يسبق عيد فطر شيعي وإنما هنالك عيد فطر واحد وعيد أضحى واحد وأذان واحد وقلب واحد لكل الوطن. وعندما يكون هذا التوافق شاملاً كل أقطار الأمة من المحيط إلى الخليج فإن ذلك يترك في النفس بعض التساؤلات، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: لماذا لا يكون تأليف الحكومة في لبنان على نحو ما حدث في مصر عِلْماً بأن في المحروسة أطيافاً سياسية وحزبية مثل التي هي في لبنان؟ وإذا كانت ذريعة انفراد لبنان بأنه بلد ديمقراطي وأن اللعبة الديمقراطية تفرض الكثير من الأخذ والرد والتريث والتأجيل تلو التأجيل بالنسبة إلى تأليف الحكومة، فإن في مصر مناخاً سياسياً وسجالات على صفحات الصحف وعبْر الفضائيات والتلفزيون الأرضي تؤكد أن الديمقراطية ليست حكراً على لبنان، ولكن الفرق هو أن الصراعات تتراجع في مصر عند تشكيل الحكومة أو إجراء تعديل في بعض الحقائب، وتتشكل الحكومة على أهون السُّبل لأن مهمتها إدارة شؤون البلاد ومعالجة قضايا الشعب وليست ساحة نزالات، وأنه إذا كان لا بد من المنازلة فإن ساحة البرلمان تتسع لعشرات المنازلين.
من هنا يصبح لزاماً بالنسبة إلى المعاناة اللبنانية في موضوع تشكيل الحكومة إعادة النظر في ما هو سائد، وبحيث تكون الحكومة عبارة عن عدد من الوزراء التكنوقراط، وكلٌّ من هؤلاء بدءاً برئيسهم يلتزم بالحياد، فلا تعود الحقيبة التي يشغلها الوزير - كما هو السائد - قطاعاً خاصاً له ولمن يمثِّل. وأما المنازلات السياسية فتُترك للبرلمان.
ويستوقف المرء وهو يتابع المبادرات واللمسات تلك العفوية من جانب الرئيس دونالد ترمب الذي أضفى على مأدبة الإفطار الرمضانية الأولى في عهده تميزاً لافتاً، بحيث إنها لم تأتِ تقليدية كتلك التي درج البيت الأبيض على إقامتها منذ إدارة الرئيس الثاني والأربعين بيل كلينتون، وهذا لم يفعله الرئيس الحادي والأربعون جورج بوش الأب مع أن صلته بالعالم الإسلامي كانت قوية وربما لأنه لم يُحِط نفسه بمن يوضح له أهمية المسألة الدينية بالنسبة إلى القادة والشعوب في المنطقة العربية وأن العلاقة ليست فقط مصالح. ومثل هذا الأمر لم يستوعبه بما يكفي الرئيس الثالث والأربعون جورج بوش الابن الذي كانت مأدبة الإفطار الرمضانية في عهده شكلية كما مأدبة الخلَف باراك أوباما ربما لأن الأصول الإسلامية للرئيس الرابع والأربعين أوجبت عليه التعامل بحسابات دقيقة مع المأدبة التقليدية. ثم نجد الرئيس الخامس والأربعين دونالد ترمب يفصح عن المشاعر والدوافع بكثير من العفوية ويجد في المأدبة الرمضانية للتعبير خير مناسبة عما في النفس من مشاعر يسجلها عن اقتناع وليس عن مسايرة. وليس لتسجيل كلمة حق أفضل من المأدبة الرمضانية مناسَبة لقولها. ولقد تبين للقاصي والداني من كلمته أن القمة الإسلامية – العربية التي هيأها له الملك سلمان بن عبد العزيز (20 – 21 مايو/ أيار 2017) والتي يتعذر على غير المملكة العربية السعودية إنجازها ليس لجهة التحضير فقط وإنما لجمع الشمل الإسلامي – العربي على النحو الذي جرى والأرجح أنه شكّل مفاجأة للرئيس ترمب.... إن هذه القمة أحدثت في رؤيته تعديلات جذرية، وهذا لمسناه بقوله في المأدبة الرمضانية «قبْل عام قضيْنا بعض الوقت في المملكة العربية السعودية وكان ذلك من الأيام العظيمة في حياتي، كان ذلك أكثر الأوقات روعة وكنت فخوراً بقيامي برحلتي الخارجية الأولى كرئيس للولايات المتحدة إلى قلب العالم الإسلامي وتحدثتُ أمام تجمُّع لأكثر من خمسين من قادة الدول ذات الأغلبية المسلمة».
وعندما يقول الرئيس ترمب هذا الكلام فليس مسايرة للأمير خالد بن سلمان بن عبد العزيز سفير خادم الحرمين الشريفين الذي كان إلى جانب الرئيس على المائدة الرئيسية، وإنما لإقرار في النفس بأنه بعد تلك القمة كان غيره شأناً وتأثيراً بالنسبة إلى «أجندة» الاهتمامات داخلياً وخارجياً، أي بما معناه أن تلك القمة شدَّت من عزيمته السياسية وطرْح رؤاه، والتي أحدثها وأكثرها أهمية الإنجاز الكوري الذي لعله يشكل وقفة مساءلة للنفس بالنسبة إلى أهل الحُكْم الثوري الإيراني، ووقفة تأمُّل في واقع الحال السوري من جانب الرئيس بشَّار الأسد يرجِّح فيها حنكة والده عند الشدائد على ما عدا ذلك من الرهانات والارتهانات ومواصلة السباحة عكس التيار، وتبدأ في ضوء ذلك انكفاءة اختيارية له فلا يعود أسير صراعات روسية – إيرانية – إسرائيلية على سوريا الوطن والدور، على حساب الشعب ومستقبل الأجيال.
وكما المبادرة الرمضانية للرئيس ترمب بالعفوية التي لاحظها القاصي والداني، هنالك اللفتة الرمضانية الطيبة من جانب رئيسة الحكومة البريطانية تريزا ماي التي لبّت دعوة عائلة مسلمة في بورتسموث وجلست على الأرض كما أفراد العائلة الصائمين وغطت رأسها بشال قدَّمته سيدة البيت المستضيف لها فبدت بهذه العفوية المتناهية أنها معنوياً واحدة من عشرات الألوف من المسلمين الآسيويين والعرب الذين بات معظمهم من الذين أقسموا اليمين عند الحصول على الجنسية البريطانية على أن يصونوا المملكة المتحدة، ويدعوا الله أن يحفظ الملكة. وبهذه اللفتة الطيبة بدت الرئيسة تريزا ماي ترطب أجواء لدى المسلمين حاول بعض المتعصبين تعكيرها بممارسات تُناقض سماحة الديمقراطية البريطانية. ثم تأتي من جانب عريس المملكة المتحدة الأمير هاري الذي رأى وهو يقوم برحلة شهر العسل في سنغافورة أن يقصد عائلة مسلمة لتناول طعام الإفطار إلى مائدتها ويصغي مثل أفراد العائلة إلى القارئ الذي يتلو آيات من الذكْر الحكيم، وعندما يؤذِّن المؤذن للحظة الغروب بالقول «الله أكبر» ينحني الأمير هاري وعروسه احتراماً وتقديراً.
ويبقى أنه كان مأمولاً من الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون أن يسجل مبادرة نوعية في المناسبة الرمضانية الأولى له كرئيس على نحو ما فعل الرئيس ترمب. لكن الرئيس ماكرون ليس فقط لم يفاجئنا بمبادرة وإنما غاب عن حفل الإفطار السنوي للمجلس الفرنسي للديانة الإسلامية تاركاً ستة ملايين فرنسي مسلم يأملون تصحيح ذلك في رمضان المقبل وبحيث يقيم مأدبة وللمرة الأولى في قصر الإليزيه كما المأدبة التقليدية في البيت الأبيض.
... وهكذا رمضان. إنه كريم ومبادراته مستحبة تأتي من الجميع الذين يريدون خيراً للعباد وصوناً للبلاد.