حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

عن «تصحيح» الخطأ التاريخي

أرادت الطبقة السياسية اللبنانية من إجراء انتخابات، تأخرت عن موعدها خمس سنوات بفعل تكرار التمديد الجائر، أن تكون العملية مجرد انتزاع تجديد ثقة بأقل الخسائر الممكنة، فكان استنباط القانون الهجين الذي أعاد تثبيت القديم على قِدَمِه، فوفّرت الانتخابات الفرصة لـ«التحالف» السياسي الذي أنجز التسوية الرئاسية إياها، وإعادة إنتاج السلطة نفسها، مع إدخال تغييرات لافتة كأن يتصدر المشهد بعض أبرز رموز مرحلة الاحتلال السوري، من الذين أبعدتهم الأحداث العاصفة في عام 2005، جميل السيد وإيلي الفرزلي ومعهم محموعة من نحو عشرين نائباً، هم الترجمة عن طي صفحة ما كان «14 آذار». عبّر عن ذلك النائب الفرزلي بعد إعادة انتخابه نائباً لرئيس مجلس النواب بقوله إن «ما حصل هو تصحيح لخطأ تاريخي وقع في عام 2005»!
«جزيلاً» ست مرات، كلمة رددها الرئيس نبيه بري شاكراً برلمان عام 2018 على التجديد السادس له، فاستشارات رئاسية ملزمة أفضت إلى إعادة تكليف الرئيس الحريري تشكيل الحكومة الجديدة، واستشارات نيابية للتأليف بدت كأنها عملية ميكانيكية شكلية فرضتها تقاليد دستورية، يزعمُ من يقوم بها أنها في صلب العملية الديمقراطية، وربما هي الديمقراطية كما أرساها الاحتلال السوري بدايةً، وبعده السلاح غير الشرعي والهيمنة الجديدة الزاحفة، وعلى هذا المنوال قد يتمُّ التخلي عنها مستقبلاً لأن القرار في مكان آخر... لكن هنا سيكون الباب مفتوحاً على غاربه لتناتش الحصص، مثل تصغير فرقاء لمصلحة تكبير آخرين بفعل التبدل في بعض جوانب ميزان القوى بين الأطراف... أو تقديم هدايا هنا أو حجبها عن هناك.
للمشاهد والمواطن العادي، إنها الأصول في إدارة اللعبة لإعادة إنتاج حكومة لن تكون مغايرة كثيراً عن التركيبة المستقيلة، رغم كل ما يقال عن المطالب والعقد والتمثيل: التمثيل السني مع وجود 10 نواب (أكثر من الثلث) خارج الحريرية السياسية، لا بل بعضهم من أشد المحسوبين على «حزب الله»، والتمثيل المسيحي مع مؤشرات تتالى مفادها أن ما فاز به حزب د. جعجع من حواصل انتخابية ضاعفت تمثيله النيابي، هو عدد ليس بالضرورة أن ينعكس حقائب وزارية، والبداية كانت في الجلسة النيابية عندما تم استبعاد ممثل «القوات اللبنانية» من تركيبة مكتب المجلس النيابي التي يشغلها منذ عام 2005، وأيضاً ما يقال عن العقدة الدرزية، حيث الضغوط متنوعة لعدم حصر التمثيل الدرزي في الفريق الجنبلاطي الذي يحوز سبعة ممثلين من ثمانية!
كلها عقد مهمة لأصحابها، وهم يرونها في صلب المحاصصة الحكومية وفي الدولة، بعدما توافق أهل التسوية على تكريس المحاصصة بديلاً عن الدستور ومندرجاته... لكنها تبقى من الأمور الجانبية لمن بيده القرار الفصل، عنيتُ «حزب الله» الذي يشترط الموافقة على رؤيته السياسية شرطاً مسبقاً لدخول أي طرف جنة الحكم، واستطراداً جنة المحاصصة! وهنا نفتح مزدوجين للإشارة إلى أنه مهما قيل لـ«حزب الله» إن الاستهداف الإسرائيلي المتصاعد لإيران وميليشياتها يضع الاستقرار تحت المجهر، ولأن دفتر الشروط الأميركي غير مسبوق ويجب أخذ ذلك بعين الاعتبار في المواقف السياسية الداخلية وتحديداً في شكل الحكومة وبرنامجها، فإن أجندة «حزب الله» لا تتغير لجهة إمعانه في محاولة وضع يده على البلد، للتعويض عن تراجع الدور الإيراني من بغداد إلى دمشق مروراً بصنعاء، وهو يدرك أن نفوذ طهران في لبنان لن يكون بمنأى عن هذا التطور، لكل ذلك لا يتأخر عن محاولة قضم ما بقي من مرافق رسمية، واللافت هنا تلميحه إلى الاستحواذ على حقيبة «العدل» مع اقتراب المحكمة الدولية من مرحلة إصدار أحكامها، والأحكام قد تتجاوز الحكم على قادة حزبيين معينين، إلى التحكم بكيفية توزيع الحقائب الوزارية، وبينها مطالبة محقة بإعادة إحياء وزارة التخطيط، وإن تطلب الأمر بضعة أشهر، ليضع يده عليها ويتحكم ويحدد أولوية المشاريع وكيفية استغلال القروض والهبات، وبعبارة أخرى يستند إلى فائض القوة لتهميش المواقع الأخرى في الدولة وتوجيه دفة الحكم وفق مصالحه ومصالح الجهة الخارجية التي يمثل، وبهذا السياق سيكون البيان الحكومي بمثابة تحصيل الحاصل، حيث هناك أكثرية نيابية تدعم ثلاثية «جيش وشعب ومقاومة» مع كل ما تعنيه من تبني قوة عسكرية رديفة للجيش غير خاضعة للقانون والانتظام العام!
إنها التسوية الرئاسية تتمدد وتطال كل المجالات، فقانون الانتخاب الهجين الذي تم تمريره في ليلٍ شكَّل الأداة لتشريع هذا الوضع ولو بـ49% من المقترعين. ومن التسوية الرئاسية للانتخابات وإطلالة برلمان عام 2018، غاب عن كل القوى العنوان السياسي الأبرز الذي استمر محور الحياة السياسية في لبنان ومحركها، وهو المتعلق برفض السلاح خارج الشرعية، ورفض وجود دويلة داخل الدولة، إلى دور «حزب الله» في الحرب على الشعب السوري وبلوغه اليمن ومؤخراً الصحراء الغربية بعدما تم تحويل لبنان منصة استفزاز لكل الأشقاء العرب... في مقابل كل ذلك كان «السياديون» السابقون في حالة ارتياح لمقولة مفادها أن السلاح مسألة خارجية، فتعايشوا مع هذا السلاح واستقالوا واقعياً من الدور الوطني وغرقوا في محاصصة أدارها «حزب الله» وفق أهوائه وخدمةً لمصالحه!
دون أدنى شك، انتفاخ الدور الإقليمي لـ«حزب الله» وكل التغذية الإيرانية التي لم تتأثر باتساع الفقر في إيران، واستخدامه الكثير من الموارد العامة لتعزيز دوره وشعبيته، ومؤخراً استخدامه أموال البلديات في تغطية معاركه الانتخابية... كلها عناصر مكّنته من بدء الانتقال إلى مرحلة أعلى، مرحلة دولة «حزب الله» التي تقرر وعلى الآخرين وما بقي من دولتهم أن ينفّذوا... هذا الوضع الجديد تتعامى عنه عمداً أكثر القوى، لأن الإقرار به يرتب مسؤوليات، لذلك يتتالى فتح «معارك» حول حجم المحاصصة في الحكومة والإدارة، أي المدى الذي يمكِّن كل جهة من الاستئثار بحصة من الكعكة التي يتحكم بها الطرف المهيمن.
«حزب الله» ومن خلفه الحكم الإيراني هما اليوم الجهة المهيمنة والأقوى، وهذه الهيمنة التي تدرجت لم تبدأ لا بالانتخابات النيابية بالأمس ولا بالتسوية الرئاسية قبلها، بل إن جذورها تعود لمرحلة البدء بتهميش مؤسسات الدولة وشل المؤسسات الرقابية والمالية واستتباعها لهذا الزعيم الطائفي أو ذاك، مرحلة ما سمِّي حكومات الوحدة الوطنية المستمرة التي أنهت الدور الرقابي والتشريعي للبرلمان، مرحلة بدأت مع العفو العام عن جرائم الحرب وتعليق العمل بالدستور عندما تم القبول باستمرار السلاح خارج الشرعية... ومع أن اللحظة حانت لقلب هذا المسار في عام 2005، فإن من كان بيدهم الأمر رفضوا التقاط اللحظة، ولم يستمعوا لصوت الناس الذي هدر في 14 مارس (آذار) 2005؛ نريد دولة ونريد التزام الدستور وتطبيق القانون... واليوم بهذه القوى وهذه التوازنات الفوقية، ليس بالأمر السهل الرهان على مسار حقيقي يعيد التوازن السياسي إلى البلد، ويُسقط الاستقواء بالخارج والتبعية، ويستفيد من التحولات العاصفة التي شاء الفريق الممانع أم أبى لا تسير الأمور باتجاه تعزيز نفوذ هذا المحور.