حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

الانتخابات اللبنانية: منتصر وحيد!

بفضل قانون هجين للانتخابات جوّف النسبية، وابتكر مَن وضعه لعنة الصوت التفضيلي، ما أطلق العنان للصراع المذهبي والرشى، انتخب لبنان برلمان عام 2018 الذي يقوم على التمثيل الطائفي ويفتقر إلى جوهر التمثيل الوطني. إنه القانون الذي هدف إلى تكريس أحزاب طائفية كبرى تختزل الطوائف. عموماً النتائج كانت معلومة قبل التوجه إلى صناديق الاقتراع، فأطراف المحاصصة الذين توافقوا على قانون يحمل بصمات «حزب الله» كانوا واثقين أنه بفضل هذا القانون ستتم إعادة إنتاج نفس القوى وإسباغ الشرعية الشعبية عليها مع تعديل في ميزان القوى في ما بينها. لذلك شهدنا تحالفات مصلحية بين الخصوم، وحرب نكايات صوتية وشد عصب طائفياً ومذهبياً، وغياباً شبه كلي للسياسة، مع أن البلد على حافة النار، وكل المنطقة يلفّها تهديد بأكبر تغيير ديموغرافي، وقد تشهد إعادة نظر بالحدود وتركيب دولها، وتجاهلاً متعمداً لكل الأزمات الخانقة الاقتصادية والاجتماعية، فكانت الصفعة، مع امتناع أكثر من 50 في المائة من الناخبين عن المشاركة في انتخابات معلبة، يراد منها إسباغ الشرعية الشعبية على تسوية المحاصصة والاستقرار المزعوم الذي لم ينجح في تحريك أي وضع يفيد الناس، فجاءت المقاطعة لتقول: إن الناخب معترض على المنحى العام ويرفض الانقياد وراء ما يراه من خفة سياسية، وهو الأمر الذي أدركه رئيس الجمهورية فعمد إلى توجيه النداء المتلفز مرة بعد أخرى لرفع نسب الاقتراع دون طائل!
كل القيادات السياسية قالت ما عندها، والكل كان يركز على حجم الربح الذي حققه، مَن زاد مقاعده النيابية مثل حزب «القوات اللبنانية»، ومَن تمكن من المحافظة على تمثيل واسع نسبياً رغم ضمور عدد النواب مثل «المستقبل» أساساً ويليه «التيار الوطني الحر» إلخ... لا شيء يبشر بأن الطبقة السياسية جاهزة أو تملك الإرادة لتعلُّم دروس الانتخابات، وأولها أن الانقسامات التي تُرجمت مقاعد نيابية، إنْ وسط المسيحيين أو وسط السنة، أسقطت ما كان أحادية أو سعياً لثنائية، وهي أبرز الإيجابيات التي تشي بأن أولوية المواطنين اللبنانيين التمسك بالتنوع والبحث عن خيارات جديدة، ورغم الكثير من السلبيات الآنية فالمسألة هنا مفتوحة والخيارات التي تحققت اليوم مرشحة للتبدل في الغد. واستناداً إلى كل ما قيل لا يبدو أن البلد سيشهد في الآتي من الأيام ورشة تصحيح مسار وفك أسر إصلاح تأخر كثيراً. إنها طبقة سياسية بغالبيتها تكابر وتمتنع عن رؤية الحقيقة، وأولها وأهمها أن الخيارات السياسية التي قامت عليها التسوية السياسية وضعت البلد وكل اللبنانيين أمام حائط مسدود.
المنتصر الحقيقي في هذه الانتخابات، السيد حسن نصر الله، لم يتأخر في المصارحة، وهو الجهة الوحيدة التي خاضت الانتخابات وفق أجندة سياسية معلنة، مفادها أن الحماية الحقيقية للسلاح تتطلب حضوراً قوياً ووازناً في المجلس النيابي ومؤسسات الدولة، وها هو يعلن أن «تركيب المجلس النيابي الآن يشكل ضمانة لحماية خيارنا الاستراتيجي والمعادلة الذهبية: جيش وشعب ومقاومة». والحديث هنا واضح وهو برسم الخارج، بعدما باتت الأكثرية النيابية لأول مرة منذ عام 2005 توالي «حزب الله»، وجوهر الحديث أن أي استهداف يعني استهداف كل البلد (...)، وهو إذ ركز طويلاً على أهمية استئثار الثنائي الشيعي بكل المقاعد الشيعية (26 من 27)، قال إن «رسالة الانتخابات تنفي شائعات تراجع المقاومة في بيئتها»، وبعدما كان قد خوّن كل من تجرأ على خوض الانتخابات ضد لوائحه، لم يتوقف أمام ما شهدته عمليات الاقتراع في الجنوب وبعلبك الهرمل من تعديات على المنافسين من ضرب وحجز وتهديد، إلى طرد المندوبين من أقلام الاقتراع، إلى بدعة تلبية وزارة الداخلية طلب «حزب الله» السماح لمن هم في المحيط (؟؟) بالاقتراع بعد وقت الإقفال، في تجاهل فظٍّ للقانون ليتم إنزال نحو 8 آلاف مقترع من المجنسين تم استقدامهم من سوريا، إلى «ضياع» صناديق، و«تغيب» المحاضر التي يفترض أنها تحمل تواقيع المشرفين على العملية الانتخابية. إنها عمليات اقتراع استندت إلى فائض القوة، إلى السلاح والبلطجة، لانتزاع موافقة مفادها أن الناخبين في الجنوب كما في البقاع الشمالي، منحوا الغطاء لكل هذا الموت خارج الحدود، ولكل هذا النهج الذي حوّل لبنان إلى منصة لاستهداف الأشقاء ووصل الأمر مؤخراً إلى الصحراء الغربية في المغرب!
هنا نفتح مزدوجين للإشارة إلى أن الشرعية الواسعة التي انتزعها الثنائي الشيعي في صناديق الاقتراع، حملت أيضاً إلى البرلمان الجديد مؤيدين وداعمين له من النواب السنة أساساً ومن المسيحيين، وهذا الاختراق لافت، خصوصاً أنه أعاد وجوهاً من الحقبة السورية، هم من أشد الداعمين للحرب التي ينخرط بها «حزب الله» ضد الشعب السوري، فضلاً عن كل نهجه تحويل لبنان منصة للاعتداء على الدول العربية.
الانتصار الانتخابي لهذا المشروع السياسي شهدت بيروت والكثير من المدن نتائجه قوافل من مئات الدراجات النارية والأعلام والمسلحين اجتاحت الأحياء، واستفزت الناس بهتافات مذهبية وشعارات طائفية، وصولاً إلى زرع عَلَم «حزب الله» فوق نصب الرئيس رفيق الحريري على مقربة من المكان الذي شهد اغتياله في عام 2005. إن ما شهدته بيروت خلال الـ36 ساعة التي تلت الانتخابات، وتزامنت مع الذكرى العاشرة لأحداث 7 مايو (أيار) 2008، قالت بالفم الملآن: «نحن الدولة ونحن السلطة ونحن أصحاب القرار، ولبنان تكرّس ورقةً في الملف الإيراني، والأهداف الداخلية واضحة وتتمحور حول اعتزام الدويلة تطويع الناس، غير عابئين باهتزاز السلم الأهلي. وفي نفس الوقت مسقطين كل ما ردده رئيس الحكومة الحريري من أن التسوية السياسية أمّنت الاستقرار، فالاستقرار ليس بيده، لأنه عندما تدعو الظروف «حزب الله» لهزِّ الوضع فإن صاحب القرار في الضاحية الجنوبية لن يقف على رأي أحد أو خاطر أحد... وهذا يفسر جانباً من أسباب العزوف الشعبي عن الانتخابات».
كان الرئيس ميشال عون قد ردد سابقاً أن حكومة العهد الأولى هي التي ستلي الانتخابات النيابية، السؤال هو: هل حملت الانتخابات نكسة ما للقصر خصوصاً أن ما يوحي به رأس جبل جليد الانتخابات يفيد بأن شروط تشكيل الحكومة الجديدة هي اليوم أكثر تعقيداً؟ كما أن تسمية الرئيس المكلف ليست تحصيل حاصل بل ستكون عرضة للكثير من التجاذبات، وهذا حديث آخر.