خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

بين البنطلون والجبة

عندما تأسَّسَت المملكة العراقية في العشرينات، لم يكن هناك في العراق أي زيّ معترَف به أو سائد بين الناس. لبس الأكراد في الشمال السروال الفضفاض، وفي الجنوب لبسوا الدشداشة الخام البيضاء، وفي بغداد والمدن الرئيسية لبس المتعلمون ورجال الدين الجبة والعمامة. ومَن خدم في الجيش العثماني والإدارة العثمانية اعتبروا أنفسهم أفندية فلبسوا السترة والبنطلون، يقال مثل ذلك عن شعار الرأس في تنوعه. لم يكن المواطنون يعطون صورة مقبولة لوحدة الوطن. ولهذا بادر الملك فيصل الأول إلى الإيعاز بتوحيد الأزياء. ولكن الحكومة لم تجد من المناسب أو الممكن فرض ذلك على أحد. لم يكن العراق قد عرف الديكتاتورية بعد؛ ففكروا فقط في النشء الجديد، أولاد المدارس. أصدرت وزارة المعارف تعميماً لكل المدارس بمطالبة الطلبة جميعاً بلبس البنطلون والثوب والسترة. لا يجوز دخول المدرسة بالدشداشة والطاقية (العرقجين) أو الجراوية.
نُفّذ الأمر، بيد أن مدير مدرسة الكرخ الثانوية، الأديب والشاعر ناجي القشطيني، لاحظ صبياً واحداً ظل يلبس الجبة والعمامة، فنادى عليه وسأله عن اسمه، فقال: «اسمي عبد الرسول الخالصي». أمره بإطاعة النظام، وتغيير زيه، وترك الجبة والعمامة. ولكن في اليوم التالي جاء التلميذ بالجبة والعمامة نفسهما، ولكن معه والدته. ذهبت فوراً للمدير وشرحت له الأمر، وتوسلَت به أن يتغاضى عن هذا التلميذ بالذات، وشرحت له السبب. قالت إنها قضت عدة سنوات، وهي عاقر ولم ترزق بطفل. ثم نذرت للرحمن (عز وجل) أن تكرس للدين وليدها إذا مَنّ الله عليها بولد، وتُلبِسه الجبة والعمامة ليصبح ملّة ورجل دين، رجلاً من رجال الله كما يقال. وهي كامرأة مؤمنة لم تشأ أن تخرج عن نذرها لله.
وإذا أصرَّت الإدارة على غير ذلك، فستسحب ابنها من المدرسة، كما قالت. كانت امرأة صالحة لم تشأ أن تعصي الله. وهو ما يفعله الكثيرون منا.
كان ناجي القشطيني من الأساتذة المتنورين والمتسامحين. فأصاخ لكلامها ولم يشأ تحويلها عن قَسَمها بالله. فترك الصبي عبد الرسول يأتي للمدرسة بالجبة والعمامة. ولما كان هذا الزي لا ينسجم مع دروس الكشافة والرياضة فقد أُعفِي منها أيضاً. بعد بضعة أشهر زار المفتش الإنجليزي المستر كوكس المدرسة، ولاحظ هذا التلميذ الشاذ بالجبة والعمامة. سأل المدير: لماذا سمح لهذا الصبي بهذا الزي خلافاً للتعليمات؟ شرح له حقيقة الأمر، وما أدلَت به الوالدة الفاضلة. فوافق المفتش على الاستثناء، ولم يأتِ بالدبابات البريطانية لفرض إرادته على الفتى.
مرّت السنوات وأكمل الولد دراسته بالجبة والعمامة ودخل كلية الحقوق وتخرج فيها محامياً. كان صبياً ذكياً وحريصاً. وما انفك حتى أصبح وزيراً للعدل. نظر أمامه عريضة من سعدون القشطيني طالباً وظيفة قاضٍ في المحاكم. سأل عنه وعرف أنه ابن ذلك المدير. تناول القلم، وشرح على العريضة «يعين فوراً» في المحاكم العراقية. وكانت مكرمة بمكرمة وحسنة بحسنة. ولا يضيع عند الله أجر المحسنين.