بالطبع هي مصادفة بحتة، لكنها لافتة.. فأبرز شخصيتين تعدان رمزي التسامح في القرن العشرين مرتا بذلك الجزء في أقصى جنوب القارة السمراء بالقرب من طريق التجارة البحرية العريق في رأس الرجاء الصالح.
ففي تلك النقطة، استعرت بذرة روح الكفاح ضد التمييز في قلب الزعيم الهندي العظيم المهاتما موهانداس كرمشاند غاندي، حيث خبر الرجل أولى تجاربه في التمييز العنصري خلال رحلته التي بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر، واستغرقت نحو 20 عاما في جنوب أفريقيا، وهي المستعمرة البريطانية مثلها في ذلك الأمر مثل وطنه الهند، قبل أن يعود إلى وطنه لاحقا ليبدأ رحلته التي علم خلالها العالم فن الكفاح السلمي ضد الاحتلال والتمييز، وصار رمزا لفكرة التسامح.
غادر غاندي جنوب أفريقيا وعاد إلى الهند في عام 1915، وبعدها بثلاث سنوات ولد في قبيلة الكوسا (أو الخوسا) المحلية طفلا سموه روليهلاهلا، وبلغة القبيلة كان ذلك الاسم يعني «المشاغب» (حرفيا: نازع الأغصان من الشجر).
وعندما ذهب المشاغب في التاسعة من عمره إلى المدرسة الابتدائية، سماه مدرسه «نيلسون»، وهو تقليد كان شائعا في ذلك البلد، حيث إن أغلب مدرسيه بريطانيون ممن لا يجيدون نطق الأسماء المحلية، ويفضلون إطلاق أسماء إنجليزية على الأطفال لسهولة التعامل معهم.
بدأ نيلسون مانديلا حياته العملية كمحام، وهي مفارقة أخرى وتشابه مع الزعيم الأول غاندي.. ولكنه كان بالفعل مشاكسا ومشاغبا كاسمه الأصلي في مناهضة الاستعمار، وألقي القبض عليه مرارا وتكرارا لأنشطة مثيرة للفتنة، بحسب سلطات الاحتلال في ذلك الوقت.
وبعد سنوات من شغبه، وعقب بضع سنوات من وفاة غاندي في عام 1948، اتخذ مانديلا قرارا بمواجهة الاحتلال بالمقاومة غير العنيفة، متأثرا بحركة المهاتما.
وتحولت قصة حياة مانديلا إلى أيقونة نضالية مثل سابقه غاندي.. ورغم أن الزعيمين - ربما - لم تسنح الظروف بلقائهما الفعلي وجها لوجه، فإن طريقهما تقاطع تاريخيا بصورة لافتة.
التقى مانديلا لاحقا واحدة من سلالة المهاتما، حين استقبل زعيمة حزب المؤتمر الهندي سونيا غاندي، أرملة راجيف بن أنديرا ابنة غاندي، في جنوب أفريقيا عام 2007.
لكن تقاطع طريق الزعيمين جغرافيا استوقفني.. فوجود هذا البلد الذي يشرف على طريق التجارة البحري القديم «رأس الرجاء الصالح»، قد يحمل دلالة رمزية مهمة، وإن كانت بالقطع نتيجة مصادفة بحتة.
يعرف طريق رأس الرجاء الصالح (Cape of Good Hope) بأنه الطريق البحري التجاري الذي يتنازع العرب والبرتغاليون تاريخيا على اكتشافه في نهايات القرن الخامس عشر، وأنه الطريق الذي مرت به التجارة بين الهند والصين (شرق آسيا) ودول أوروبا، وذلك هروبا من سيطرة دولة المماليك في مصر على طريق التجارة البحري القديم القصير (الذي كان جزء منه يجري على الأرض قبل حفر قناة السويس).
وفضلت الممالك الأوروبية آنذاك أن تسلك الطريق الأطول والأخطر (أطلق عليه أيضا اسم «رأس العواصف»، و«رأس الشيطان»)، متحملة فقدان جزء كبير من التجارة، وذلك عقب فرض دولة المماليك رسوما باهظة على المرور بأراضيها وتحكمهم بالطريق، ناهيك بانتشار قطاع الطرق وهلاك الكثير من القوافل نتيجة ضعف قبضة دولة المماليك عسكريا في ذلك الوقت.
وعلى مدار التاريخ الحديث، استخدم تعبير «رأس الرجاء الصالح» لغويا للدلالة على اللجوء إلى الحلول الشاقة غير المباشرة، لكنها ربما الأصلح للاستخدام رغم مقاسيها.
هكذا كانت مسيرة الزعيمين غاندي ومانديلا تحديدا.. فرغم انتشار حركات المقاومة المسلحة ضد الاستعمار في بلديهما - وقت أن بدأ كل منهما مسيرته - فإنهما فضلا أن يسلكا طريقا غير مأهول لتخليص بلديهما من المأساة، وهو ما عرضهما لانتقادات قاسية في بداية الطريق، ربما كانت كفيلة بتراجع أي شخص طبيعي عن مسلكه.. لكننا نتحدث عن أسطورتين في التحمل والتسامح والإصرار.
وفي يوم رحيل مانديلا.. ننظر إلى دول الربيع العربي تحديدا، حيث لم تنجح ربما أي منها في التفاهم أو الوصول إلى صيغة مقبولة من التسامح الإنساني، آملين أن يظهر في إحداها من يحمل شعلة سابقيه غاندي ومانديلا.. ولو ثابر وسلك طريق «رأس الرجاء الصالح» لتحقيق مراده.
TT
التسامح يمر بـ«رأس الرجاء الصالح»
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة