رجينا يوسف
صحافية لبنانية
TT

التسول الممنهج

يتفق كثيرون على أن الفقر ليس عيبا، والعمل من أجل رغيف خبز أفضل بكثير من التسول، خصوصا في الدول المستقرة أمنيا، التي تعتبر الانسان رأس المال الأول في الحياة وتسهل له حقوقه من المأكل والمشرب والمسكن.
وظهرت عبر التاريخ أمثال وحكم كثيرة في الفقر والعطاء وأهمية تعلم المهن، ومنها المثل الصيني الشهير "لا تعطني سمكة بل علّمني كيف اصطاد السمك".
ولكن عواصم العالم لا تخلو من مشهد انتشار ظاهرة التسول، التي أصبحت آفة مازالت تعاني منها المجتمعات المتقدمة والفقيرة على حد سواء.
أسباب التسول عديدة ولكنّها تختلف من مجتمع لآخر. في بعض المجتمعات يشكل سوء توزيع الثروات أو التفاوت الكبير بين طبقات المجتمع وغياب المؤسسات الاجتماعية التي تعنى بمساعدة الفقراء والعاطلين عن العمل، سببا رئيسا للتسول. وفي هذه الدول توجد أكثر المشاهد إيلاما كرؤية طفل رسمت المدينة على وجهه خطوطا حفرتها دموع الألم والعوز، أو عجوز أعاقه التقدم بالعمر فلم يعد له سوى الشارع منزلا.
أمّا في دول العالم الأول، التي تفرض حكوماتها ضرائب تصاعدية، فيعود الجزء الوافر من ريعها لمساعدة الأسر المحتاجة، فتختلف أسباب التسول وتفرض التساؤلات نفسها.
في عواصم العالم الأول قد لا تجد طفلا يطلب منك رحمة، ولكنك تصادف أنواعا متعددة من التسول، له قواعده الفنية الذكية التي إذا ما اتقنها المتسول بمهارة، يستدر عطف العاطي ويوقعه في شباكه برضى كامل.
ومن هذه الفنون حدث أن مرّ شخص وانا جالسة في أحد مقاهي العاصمة البريطانية لندن أحتسي القهوة مع صديقة لي، فلفتنا بطريقة مشيته ونظراته التائهة. كان حسن الهندام يجر حقيبة سفر كبيرة وراءه ويحمل مظلة حمراء وفي يده خريطة قطار الأنفاق، اقترب منا مستعينا بلغة الاشارات ليشرح لنا ما يريد. فبادرت صديقتي لمساعدته وسألته الى أين يريد الذهاب. أطلعته على كيفية الوصول الى المنطقة المحددة بالقطار، ولكنه أبلغها بحركة من أصابعه انّه سيذهب سيرا على الأقدام. وبما انّ المسافة بعيدة ما كان منها إلا ان تناولت عشرة جنيهات من حقيبتها وقدمتها له, وفي تقديرها انه ربما كان مهاجرا قادما من مكان بعيد بطريقة غير شرعية، لانّ منظره لا يشبه المتسولين.
وفي اليوم التالي قصدنا المقهى لارتشاف القهوة، وإذ بالرجل نفسه يمرّ أمامنا وهو يجر حقيبة السفر إياها، ويبدو أن ذاكرته لم تساعده فنسي أن ضحية اليوم هي نفسها ضحية الأمس. فاقترب منا ليكرر سيناريو التسول نفسه، فما كان من صديقتي الّا أن رمقته بنظرة صارمة وهزّت برأسها وعلى وجهها ابتسامة غضب من فشلها في اكتشاف حقيقتة قبل يوم. ومن دون ان ينبس ببنت شفة استدار وغادر المكان مصطحبا عدّة التسول.
فهل أصبح للتسول وسائل ممنهجة يتقنها المتسول للايقاع بضحاياه؟ أم انّه السبيل الأسهل للحصول على المال؟ وهل نسي المتسولون انّهم قد يفتضح أمرهم يوما ما؟ وبحسب مقولة الرئيس الاميركي الأسبق أبراهام لينكون، "يمكنك أن تكذب على جميع الناس بعض الوقت، ويمكنك أن تكذب على بعض الناس طوال الوقت، لكن لا يمكنك أن تكذب على جميع الناس طوال الوقت".