سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

الهند تنادينا

واحد من الأخبار الجميلة مع بداية العام الجديد إلغاء الهند صفقة أسلحة كانت تود شراءها من إسرائيل تتجاوز قيمتها 500 مليون دولار. والأجمل أن يأتي هذا الخبر قبيل أيام من وصول رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى نيودلهي في زيارة رسمية لعدة أيام، مصحوباً برجالات العسكر والاقتصاد والأعمال استعداداً لعقد المزيد من الاتفاقات وتوثيق العلاقات بين البلدين، التي توليها إسرائيل عناية كبرى. وقبلها كانت صدمة أيضاً، عندما صوتت الهند في الجلسة التاريخية للجمعية العامة للأمم المتحدة ضد قرار دونالد ترمب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها. وبذلك انضمت الهند، على غير ما كانت تتمنى إسرائيل، إلى 127 دولة رافضة التهديدات الأميركية، وحافظت على دعمها التاريخي لقضية فلسطين، ومواقفها التي لم تتزعزع.
الخيبة في إسرائيل كبيرة، بعد الاحتفاليات التي أُقيمت في يوليو (تموز) الماضي على شرف ناريندرا مودي، حين زار تل أبيب ليكون بذلك أول رئيس وزراء هندي يقوم بخطوة مماثلة بعد مرور 70 سنة على احتلال فلسطين. يومها بدا، لمن استمع لكلمات نتنياهو ومودي، أن كل الحواجز قد سقطت، وأن أبواب نيودلهي شرعت لإسرائيل، كما لم يحدث من قبل، خصوصاً أن هذا الأخير لم يفكر حتى في زيارة السلطة الفلسطينية في رام الله، كما تقتضي مسايرة الحد الأدنى.
قد لا يكون إلغاء صفقة الصواريخ مرده سياسي، لكن طريقة الإعلان عنه وتوقيته تفتقر إلى البراءة. وكتب صحافي إسرائيلي تعليقاً على ذلك يقول: «الهند تريد قصة غرام مع إسرائيل لا علاقة دائمة»، معدداً الأسباب الداخلية كالخارجية الكثيرة، التي تكبح الرئيس مودي من الذهاب إلى غاياته في علاقات (أخوية) مع دولة يشعر ملايين الهنود بعداء نحوها.
ومشكلة الهند ليست مع إسرائيل ولا مع رئيس وزرائها مودي الذي توجه إليه اتهامات متعددة في بلاده نظراً إلى ميوله الهندوسية اليمينية، وإنما مع العرب، الذين يقيسون كل ما حولهم بمعايير السياسة ذات النَّفَس القصير لا بقيم الثقافة.
وأينما توجهت في الهند وجدت معلماً أثرياً إسلامياً أو مسجداً أو زخرفاً. فأهم معلم تاريخي في العاصمة هو المسجد الجامع الذي بناه الإمبراطور المغولي شاه جهان، يشمخ وسط السوق القديمة ويعيش حوله الملايين. ولا يمكنك وأنت تتمشى في تلك الأسواق إلا أن تلحظ الأسماء العربية بلغة الأوردو التي يمكن أن تقرأها جيداً لأنها مكتوبة بحروفنا التي لا نخطئها. ولعلك لم ترَ من قبل أقدم من مئذنة قطب التي تعود إلى القرن السادس الهجري، ولا أغرب منها، حيث إنها شُيدت من حجارة أكثر من 20 معبداً هندوسياً.
في كل الأحوال، يتشابك التاريخ الإسلامي بالهندوسي على نحو غرائبي في بلاد التوابل والسحر، وتختلط الأبجدية العربية باللغات الهندية حتى تسأل نفسك: أيُّ جهل يجعل العرب يديرون ظهرهم لامتدادهم الحضاري هنا، ويتركون لإسرائيل الملاعب مفتوحة على مصاريعها؟!
علاقة صعبة ودموية كانت أحياناً بين المسلمين والهندوس، لعب الاستعمار الإنجليزي دوراً شيطانياً في تأجيج نارها، ولا يزال الجرح الباكستاني مؤلماً، لكن البعد الحضاري للشعوب لا يخضع للثأرية وضيق الأفق. ثمة فرص ذهبية للعرب يرمون بها خلفهم كأنهم لا يريدون رؤيتها؛ طرق مفتوحة يسدّونها، ومجالات إنسانية حيوية يتعامون عنها. في الهند ما يقارب الـ250 مليون مسلم، وترى إحصائيات أن عدد الهندوس إلى تناقص، وأن الهند ستتحول إلى بلد أكبر تجمع للمسلمين في العالم، حيث سيصل عددهم في غضون سنوات إلى 300 مليون نسمة. وفي الصين أيضاً مائة مليون آخرون. هؤلاء جميعهم يتطلعون إلى اللغة العربية التي نتحدثها بقداسة وإجلال، كي لا نتطرق إلى تأثيرات ثقافية كثيرة أخرى، في النصوص الأدبية والفنية المعمارية. فمنذ القرن الأول الهجري والعلاقات التجارية بين سواحل الهند والمنطقة العربية عامرة. وأسلم أهل السواحل هناك بفعل هذا التماس والتبادل، قبل الحملات العسكرية التي أتت متأخرة، وبهدف تأمين الطرق البحرية في بداية الأمر.
إذا كان لإسرائيل بعض الأسباب لتتفانى من أجل توطيد علاقتها بالهند، بلد المليار و200 مليون نسمة، فللعرب ألف سبب وسبب. وكان مستفزاً جداً رؤية التلفزيون الإسرائيلي يحتفي برئيس وزراء الهند عند زيارته لهم، كأن بلادهم عثرت على الكنز المفقود، بينما الشعب الهندي بيننا، ويمد يده لملاقاتنا، ولا من يستجيب.
بالطبع ليست لدينا صواريخ كإسرائيل بمليارات الدولارات لنسوّقها في الهند، ولا تكنولوجيا متطورة لنتبادلها معهم، لكن يبقى حسن التدبير من الفطن التي تمنع دولاً وقفت إلى جانبنا أن تيأس وتدير ظهرها لنا. فالضعيف بحاجة حتى إلى القشة كي لا ينقصم ظهر البعير. والهند لها من الحسابات الداخلية ما يجعل مصالحها مع الدول العربية أكبر من إسرائيل، وأحياناً أميركا. فالصوت الانتخابي في بلاد العجائب له وزن، والمسلمون لهم رأي، ومناصب. فأينما يمّمت وجهك في الهند وجدت لك قربى مع التراث، وقطع صلة الرحم بالتاريخ ليست من النباهة في شيء.