سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

عمرو موسى يكتب!

كلما رأيت الوزير محمد بن عيسى في الرباط، أو في القاهرة، أو في غيرهما من عواصم العرب، ألححت عليه في اتجاه أن يجمع أوراق مسيرته في كتاب، سفيراً للمغرب في واشنطن، ووزيراً للخارجية، والثقافة، وصانعاً لمنتدى أصيلة الثقافي الدولي من عدم، ثم صاحب عقل له رؤية واضحة لما جرى ويجري من حوله، في الأول وفي الآخر!
ولكنه في كل مرة أعود فيها معه إلى الموضوع، يرد ولسان حاله يقول ما كان أنيس منصور قد همس به في أُذن ناشر كُتبه أحمد يحيى، بعد وفاة السادات بأيام!.. يومها ذهب يحيى إلى أنيس في مكتبه، يطلب منه، كما روى لي بنفسه يرحمه الله، أن يجلس ويضع كتاباً عن علاقته بالسادات، وقد كانت علاقة فريدة، وخاصة، لم يكتب الله جزءاً منها لصحافيين آخرين كبار كانوا حول السادات، بمن فيهم موسى صبري، وأحمد بهاء الدين، وإحسان عبد القدوس، وغيرهم طبعاً!
تطلّع أنيس منصور إلى الناشر الذي كان يحلم بكتاب يهز الدنيا، وقد كانت دماء السادات لا تزال ساخنة، ثم قال: يجب مراعاة فروق التوقيت!
وقد رحل الاثنان عن دنيانا، بعد أن عاشا سنوات طويلة في انتظار أن تسمح فروق التوقيت!
وربما يكون صدور مذكرات عمرو موسى هذه الأيام، حافزاً كبيراً لدى الوزير بن عيسى، لعله يجلس ليكتب، فيقيني أن عنده الكثير الذي يمكن أن يقوله مفيداً لنا، في هذه الظروف العربية الصعبة!
وسوف يأخذك موسى في رحلة ممتدة لعشرات السنين، من حي منيل الروضة في القاهرة، حيث وُلد، إلى محافظتي الغربية والقليوبية شمال القاهرة، حيث عاش طفلاً لفترة، إلى القاهرة من جديد، حيث استكمل طفولته، إلى جامعة القاهرة حيث تخرج فيها، إلى وزارة الخارجية حيث التحق بها، ومنها إلى سويسرا حيث كانت أولى رحلات عمله الخارجي دبلوماسياً شاباً، إلى الوزارة مرة أخرى، ومنها إلى نيويورك مندوباً مناوباً لمصر في الأمم المتحدة، فمندوباً دائماً بعد ذلك، إلى الهند سفيراً، إلى الوزارة للمرة الثالثة، ليصبح وزيراً لعشر سنوات!
بعض الدبلوماسيين يرى في العمل في الخارجية، فرصة عظيمة للفُسحة، وللعيش الكريم، أكثر منه أي شيء آخر، وهذا البعض يتفسح فعلاً، ويعيش حياة كريمة حقاً، ولكنه يخرج من وزارته كما دخلها، بلا ذِكر يبقى من بعده بين الناس.. والبعض الآخر يرى ذلك أيضاً، غير أنه يضيف إليه، بل يقدم عليه، مَهمة يراها واجبة، ورسالة يراها تستحق العمل من أجلها في كل موقع يحل فيه!
ومن حُسن حظ الدبلوماسية المصرية، وربما العربية، أن موسى كان من النوع الثاني!
ولأنه كان كذلك، فإنه حدد لنفسه بمجرد وصوله إلى نيويورك، ثلاثة مستويات من العمل لا بد أن يشتغل عليها داخل مبنى الأمم المتحدة؛ أما الأول فهو السعي بأي طريقة إلى إخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل، وإخضاع ترسانة إسرائيل النووية للرقابة الدولية، وأما الثاني فهو الوقوف في وجه الاستيطان الإسرائيلي في الأرض الفلسطينية المحتلة، بكل قوة ممكنة، وأما الثالث فهو منع صدور قرار من هناك، بإلغاء اعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، فالجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد أصدرت في دورتها الثلاثين عام 1975، قراراً يحمل رقم 3379 ويعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية، ومنذ صدر القرار كانت المحاولات لا تتوقف من أجل إلغائه، وحين كان موسى مندوباً لبلاده داخل المنظمة الدولية، على مرتين، جعل من بين أهدافه الأساسية، العمل مع المجموعة العربية، بكل عزيمة، لمنع صدور قرار يلغي القرار الأول!
ولم تتوقف الضغوط الأميركية، ولا الإسرائيلية، في اتجاه الإلغاء، ولكن مندوب مصر كان مع زملائه المندوبين العرب يقف لها بالمرصاد، وكانوا يحبطون كل محاولة، ويئدون كل ضغط في مهده، في كل مرة!
ولكن الضغوط نجحت بكل أسف، وألغت قرار الجمعية العامة، في 16 ديسمبر (كانون الأول) 1991، وكان ذلك بمجرد مغادرة موسى، الذي كان قد أصبح وزيراً في مايو (أيار) من نفس العام!
كان الحس العربي عالياً لديه على الدوام، ولم يكن هناك ما هو أدل على ذلك، بوضوح لا يقبل الغموض، إلا خطابه الذي ألقاه باسم مصر، في مؤتمر مدريد للسلام، في أكتوبر (تشرين الأول) 1991، ففيه بدأ الخطاب بعبارة كانت حديث الوسط السياسي المصري، والعربي، بل والدولي، في حينها، وكانت العبارة التي بدأ بها كلمته في المؤتمر، ثم راح يكررها إلى آخر الكلمة، هي: نحن العرب!
وكانت العبارة جديدة على الأُذن، وقتها، إذا ما كان المتحدث مصرياً، فضلاً عن أن يكون وزيراً لخارجية مصر، فالجامعة العربية كانت قد عادت بالكاد من تونس إلى القاهرة، ولم يكن الذين تابعوا عودتها يتوقعون أن يعود الحس العربي بهذه السرعة، في الخطاب السياسي المصري، ولكن وزير الخارجية الذي كان عُمره على كرسي الوزارة لا يتجاوز أشهراً معدودة على أصابع اليد الواحدة، كان يفهم تماماً أن هذا الخطاب وحده، هو الذي يجعل كلمة العرب لدى الآخرين، مسموعة، ويجعلها موضع إنصات، إنْ فاتها أن تكون فاعلة!.. يذكر هو أن صحافية أميركية هرولت نحوه، بعد أن فرغ من إلقاء كلمة بلده أمام الحاضرين، وقد راحت تسأله مستنكرة: هل عادت مصر إلى هذه اللغة القديمة؟!
ولم يكن غريباً، والحال كذلك، أن تطلب مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأميركية، في إدارة كلينتون، من الرئيس مبارك، ألا يرأس عمرو موسى وفد بلاده في مؤتمر صانعي السلام في شرم الشيخ، عام 1996، لولا أن مبارك لم يستجب لها.. ولا كان غريباً بالقدر نفسه أن يحرص الأميركيون والإسرائيليون، على تغييب وزراء الخارجية عن لقاء الرؤساء في مؤتمر شرم الشيخ للسلام عام 2000، لا لشيء، إلا ليكون وزير خارجية مصر بعيداً عن صياغة بيانه الختامي، وهو ما نجحوا فيه، للأسف، ورواه هو في الكتاب بالتفصيل!
لقد عاش عمرو موسى يتكلم؛ سفيراً، ووزيراً للخارجية، وأميناً عاماً للجامعة العربية، ومرشحاً رئاسياً، ولكنه هذه المرة يتوقف عن الكلام، ليكتب بخط يده، ما كان في مراحل مختلفة من الرحلة!
وحين يكتب رجل مثله، بدلاً من أن يتكلم، فإنه يضيف إلى عُمره، عُمراً آخر، وإلى أعمار قرائه بالضرورة!