يأتي صوتها في الهاتف، هذه المرة، متعباً، دون أن يفقد مسحة السخرية المرافقة له. شاعرة لماحة تخطو نحو التسعين، تجلس على تلة بعيدة تراقب بعينين سوداوين ما يجري في البلاد من كوميديا سوداء. تتذكر تلك الأبيات التي كتبها صديقها الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، يقارن فيها بين صدّ الحسان له وإقبالهن على قصائد الغزل التي يكتبها. بلغت به الغيرة من ديوانه أن خاطبه: «ألك الخلود وأنني فانٍ؟». راح بدر وبقيت القصيدة. فما الذي أعادها إلى بالها؟
يوم غادرتْ لميعة عباس عمارة العراق إلى أميركا، ابتكرت لحالتها صفة لطيفة: «لاجئة صحية». كانت تعاني من نوبات الربو فلحقت بابنها إلى مدينة ذات هواء نظيف. حفرت بالقلم، وبما كان ينثال على خاطرها من قصائد ومقالات ومذكرات، لكي تتدبر معيشتها في البلد الغريب. «العيشة تنراد»، كما يقول العراقيون. لكنها اضطرت، مؤخراً، لأن تترك بيتها الصغير في سان دييغو، بناء على أمر صاحبه. بحثت عن مسكن آخر تلتمّ فيه على أوراقها ودواوينها وعلى الكتب التي تحبّ. تعبت عيناها وما عادت قادرة على القراءة. تنظر لنفسها في المرآة فلا تعرف من هذه التي تطالعها. خطوط عديمة الذوق تفسد دعة أيقونة طالما ألهمت الشعراء والفنانين.
حسناً، لقد غار بدر من ديوانه، فمم تغار لميعة؟ تقول إنها تغبط اللوحة التي رسمها لها جواد سليم حين كانت طالبة في دار المعلمين العالية، أواسط القرن الماضي. فقد بلغها أن اللوحة بيعت بمبلغ يضاهي ربع المليون دولار في صالة للمزادات الفنية في لندن. أيهتم الناس بإطار وأصباغ وقماش من الخام الأسمر وينشغلون عن صاحبة الوجه المرسوم؟ كان جواد سليم يشرف على مرسم الكلية، وهي قد أوصته، حين جلست أمامه ليرسمها: «اعتنِ يا أستاذ، غداً سيقولون هذا هو الفنان الذي رسم الشاعرة لميعة». وردّ عليها: «بل سيقولون هذه هي الشاعرة التي رسمها جواد سليم».
في تلك السنوات البهية، عرض في بغداد فيلم «صورة دوريان غراي» المأخوذ عن قصة شهيرة لأوسكار وايلد. كانت الصورة تتغيّر وتكتسب نوازع صاحبها بينما يبقى وجهه الحقيقي كما هو. وقد شاهدت لميعة الفيلم وتمنّت لو أن اللوحة التي رسمها جواد سليم تشيخ عنها، مثلما جاء في القصة. لكن الرسام الرائد تعامل مع لوحة لميعة مثل قادة دول الرفض والممانعة. لم يكملها فظلّت مثل السيمفونية الناقصة، ولم يضع توقيعه عليها، ولم يبعها رغم أنها دارت في كل معارضه خارج العراق.
بعد سنوات من رحيل جواد، أخبرها نزار سليم، أن شقيقه كان يعلق لوحتها في بيته، يرتشف شرابه المسائي وهو يتطلع إليها. قال لها: «كان يحبك يا لميعة». ثم مرت سنوات أخرى واتصل بها الأديب جبرا إبراهيم جبرا ليخبرها أن لورنا، أرملة جواد البريطانية، تنوي ترك العراق وتقترح بيع ما تبقى من آثاره. لكن لميعة لم تكن تملك خمسين ديناراً تشتري بها الصورة البديعة التي كانت ملهمتها، فظلت اللوحة عند جبرا. وذات عشاء في بيته، أخذ بيدها وقادها إلى الجدار الذي علق لوحتها عليه. وجدت الخام الأسمر باهتاً، مع تمزّق في موضع القلب، كأنه من أثر طعنة.
سافرت لميعة ورحل جبرا وتفرقت مقتنياته، ومنها لوحة لميعة التي جرى ترميمها، كيفما اتفق، وتنقلت بين أكثر من يد حتى وصلت إلى مزاد «بونامس» في لندن وحققت الثمن الذي يليق بقيمتها. وها هي الشاعرة تتجلّد على زمانها ويأتي صوتها ضعيفاً في الهاتف، تردد بيت السياب:
يا ليتني أصبحت ديواني
لأفرّ من صدر إلى ثانِ
TT
لوحة لميعة
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة