د. عبد العزيز حمد العويشق
الأمين العام المساعد للشؤون السياسية وشؤون المفاوضات في مجلس التعاون الخليجي.
TT
20

التعامل السعودي مع الاستقطاب الدولي

استمع إلى المقالة

وصلت حدة الاستقطاب الدولي، سياسياً واقتصادياً، إلى مستوىً لم نعهده منذ أيام الحرب الباردة. بما في ذلك الحروبُ الاقتصادية بين الحلفاءِ والشركاء، بين أميركا وكندا والمكسيك، وبين واشنطن والاتحاد الأوروبي.

بدأت مؤشراتُ الركود الاقتصادي في الظهور نتيجة لهذا الاستقطاب، فقامت (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) هذا الأسبوع بتخفيض توقعاتها للاقتصاد العالمي خلال عامي 2025 و2026، بما في ذلك اقتصادات الولايات المتحدة وكندا والمكسيك وبريطانيا. أمَّا مؤشر (داو جونز) للأسهم القيادية فخسر 3000 نقطة خلال الشهرين الماضيين. وأمَّا سعر البترول (برنت) فانخفض بسبب هذه التجاذبات من قمته (82 دولاراً) في يناير (كانون الثاني) إلى أقل من 70 دولاراً هذا الشهر، مما دعا شركة (غولدمان ساكس) إلى تخفيض توقعاتها لسعر النفط هذا العام بنحو خمسة دولارات عن توقعات 2024.

الكثير من هذا الاستقطاب قد بدأ مع تولي ترمب للرئاسة، لكنّ إدارة بايدن مهَّدت له. ففي اجتماع مع الصين عُقد في ألاسكا في مارس (آذار) 2021، أي بعد شهرين من توليه الحكم، أشعل وزير خارجيته ومستشاره للأمن الوطني فتيلَ صراع مع الصين استمرَّ طوال فترة حُكمه. وبالمثل فاستراتيجية بايدن للأمن الوطني الصادرة في 2022، تبنَّت أسلوباً عدائياً نحو الصين وروسيا.

المملكة العربية السعودية، وشقيقاتُها في مجلس التعاون، نجحت في تفادي الاصطفاف مع أيِّ قُطب، ولم تدخُل طرفاً في الحروب اقتصادية، ووظّفت موقفَها المحايد للوساطة. ذلك أنَّ اقتصاد دول المجلس يقوم بشكل رئيس على تصدير البترول والغاز ومشتقاتهما، وهي سلع تنتعش مع النمو الاقتصادي العالمي وتعاني خلال فترات الركود.

بالإضافة إلى ذلك، يستفيد الاقتصاد الخليجي من ازدهار التجارة العابرة في المنطقة، من خلال الموقع المتميز الذي وصل الشرق بالغرب منذ أقدم العصور، ويتأثر سلباً عندما تتعرَّض طرق الملاحة للتهديد. فالهجمات الحوثية في البحر الأحمر أدَّت إلى تحويل التجارة عن المنطقة، ورفع تكاليف السلع للمستهلكين.

بالإضافة إلى حروب الاقتصاد، تكالبتِ الصراعات المسلحة مؤخراً مع الاستقطاب السياسي لإضعاف النظام المتعدد الأطراف، وتدهور الاحترام للقانون الدولي والقواعد المتعارف عليها لتصرفات الدول بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.

وشعرت المملكة العربية السعودية بالصدمة من جراء الاعتداءات المروّعة على المدنيين وعجز النظام الدولي عن وقفها، في حروب عبثية مدمرة في غزة وأوكرانيا وسوريا ولبنان والسودان وغيرها. وكان ذلك دافعاً رئيساً لسعيها إلى تخفيف حدة التوتر، فقدمت مبادرات متعددة مثل المبادرة الدبلوماسية مع إيران، وإحياء حل الدولتين، ومنصة جدة لحل النزاع السوداني. لم تنجح هذه الجهود حتى الآن على النحو المطلوب، ولكنَّها ستنجح إذا دعمت الدول الفاعلة في كل صراع هذا التوجه لتغليب لغة الحوار والحلول السياسية.

في أوكرانيا مثلاً، كانت المملكة أول من دعا إلى حل سياسي. ففي 3 مارس 2022، أي بعد أيام من بدء الحرب، أكَّد الأمير محمد بن سلمان خلال اتصال هاتفي مع الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، دعمه لخفض حدة الأزمة في أوكرانيا، واستعداد المملكة للوساطة. ونجحت المملكة، ودول المجلس الأخرى، في إطلاق سراح آلاف الأسرى ولم شمل العائلات الروسية والأوكرانية التي فرقتها الحرب. كما دعمت جهود استئناف صادرات الحبوب والمواد الغذائية.

وفي مايو (أيار) 2023، دعت المملكة الرئيس الأوكراني لإلقاء كلمة أمام القمة العربية في جدة، أعقبها في أغسطس (آب) اجتماع لمستشاري الأمن الوطني في أكثر من 40 دولة ومنظمة دولية لدعم جهود وقف الحرب.

في 18 فبراير (شباط) 2025، اجتمع في الرياض وزير خارجية الولايات المتحدة ومستشارو الرئيس ترمب مع نظرائهم الروس، في محاولة جديدة لإنهاء الحرب، قام بتسهيلها وزير الخارجية السعودي ومستشار الأمن الوطني.

في 10 مارس، اجتمع ولي العهد في جدة على انفراد بالرئيس الأوكراني وبوفد أميركي برئاسة وزير الخارجية ومستشار الأمن الوطني. وفي اليوم التالي، كان هناك اجتماع بين الوفدين الأميركي والأوكراني، بحضور مسؤولين سعوديين، لرأب الصدع بين الدولتين. فنجحت اجتماعات جدة في احتواء انهيار العلاقات بين الجانبين الذي حدث بعد التراشق الحاد في البيت الأبيض بين زيلينسكي وترمب ونائبه فانس.

ونتج عن تلك الاجتماعات مقترح لوقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً. ومع أن ذلك لم يتحقق حتى الآن، لكن الرئيس بوتن أبلغ ترمب في مكالمة هاتفية يوم 14 مارس بموافقته من حيث المبدأ على المقترح، على أن تتم معالجة بعض التفاصيل العالقة.

في 18 مارس، قال ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأميركي، إن المحادثات الأميركية - الروسية سوف تُستأنف يوم 23 مارس في السعودية، مضيفاً أنه تم التوافق على وقف الهجمات على منشآت الطاقة، وفي البحر الأسود، ومن ذلك يمكن الانطلاق إلى وقف كامل لإطلاق النار. وقال إنَّ الروس موافقون، وإنَّه متفائل بأنَّ أوكرانيا أيضاً سوف تقبل بذلك.

ولهذا؛ فإنَّ اجتماعات غد الأحد سوف تكون مهمة لإيضاح المواقف المختلفة، للتوصل إلى وقف فعلي لإطلاق النار، ممهداً الطريق لمعالجة القضايا العالقة الأخرى.

إذا نجحت محادثات أوكرانيا، فإنَّ ذلك سيخلق زخماً إيجابياً يساعد على تغيير التوقعات المتشائمة بشأن الاقتصاد الدولي، وربما يُخفّف بعض التوترات العالمية.

وربَّما يتم توظيف هذا الزخم في حل قضايا أخرى عالقة، مثل غزة ولبنان والسودان، لأن تعذر حل هذه الحروب يعود إلى حد كبير إلى عدم التوافق الدولي حيالها.