حسان يوسف ياسين
كاتب سعودي
TT

نحتاج إلى نظام عالمي جديد مبتكر ومنعش

استمع إلى المقالة

شهدَ القرنُ العشرون حربين عالميتين، تلتهما محاولاتٌ لتعريف نظام عالمي يهدف إلى تحقيق استقرار أكبر وتنبؤ أفضل للعلاقات السياسية والاقتصادية المتوسعة بين دول العالم. بدا أنَّ هذا النظام قد نجح لعقود من الزمن، وعلى الأرجح كان مدعوماً بالتوازن الذي وفَّرته الحرب الباردة، لكنَّه لم يعد فعّالاً أو ذا صلة في هذا القرن الحادي والعشرين الأكثر تعقيداً. من جهة، نشهد زيادة في التنافس بين القوى الكبرى، ومن جهة أخرى، نجد انتشاراً للفوضى والارتباك والصراعات عبر العالم. لا شك في أنَّنا بحاجة إلى السعي من أجل نظام عالمي جديد مبتكر ومنعش.

بعد هزيمة جنون النازية، ثبت أنَّ تأسيس الأمم المتحدة ووكالاتها كان ناجحاً إلى حد ما في تعميق العلاقات العالمية، وفي منع تزايد الصراعات العالمية، والأهم من ذلك في توفير منتدى حيث يمكن سماع جميع دول وشعوب العالم. ومع ذلك، يمكن القول إنَّ تأسيس حلف «الناتو» وحلف «وارسو» كان له الدور الأكبر في الحفاظ على هذا التوازن الهش، مكوّناً نظاماً جديداً يعتمد على «عدم جدوى أسلحتكم» في عصر القنبلة الذرية. في حين قدَّمت حرب الخليج عام 1991 أملاً بإمكانية وجود نظام عالمي أكثر تماسكاً في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فقد أظهرت الصراعات الأخيرة في أوكرانيا وغزة أنَّ الأمم المتحدة قد أصبحت غير ذات فائدة تقريباً في هذا القرن الحادي والعشرين الأكثر تعقيداً.

ما زلنا جميعاً نحاول فهمَ ما هو بالضبط النظام العالمي الذي نجد أنفسنا فيه الآن. هنا نرى دولاً تضم أجزاء من الأراضي بالقوة الوحشية، وهناك نرى مناورات مكثفة لدفع الآخرين إلى ضغط زناد حرب نووية. أظهرت الصراعات في كوريا وفيتنام والعراق وأفغانستان أنَّه حتى أقوى القوى العظمى في العالم غير قادرة على تحقيق أهدافها بالقوة وحدها. قد يشير استمرار الاحتلال الإسرائيلي وضم الأراضي الفلسطينية والعربية إلى شكل من أشكال القوة العسكرية والتهديد بالترسانة النووية، ولكننا جميعاً نعلم أنَّه لا يمكن له ذلك.

نحتاج إلى إيجاد مساحة للتنفس بين الأفعال العدوانية لأولئك الذين يمتلكون قوة عسكرية كبيرة، لنظهر لهم أن هذا هو المكان الذي تكمن فيه الفوضى والارتباك، وليس القوة الحقيقية. أود هنا أن أذكر بتأسيس حركة عدم الانحياز عام 1955، التي كانت في البداية تتألف من دول أفريقية وآسيوية معارضة لاستقطاب العالم من قبل قوتين عظيمتين، بدلاً من ذلك كانت تروج للتعاون ونزع السلاح والتحرر من الاستعمار والعدالة تجاه البلدان النامية. في الواقع، لا تزال الحركة موجودة حتى اليوم، ممثلة 55 في المائة من سكان العالم، كأكبر تجمع دولي بعد الأمم المتحدة.

اقتراحي هو أن نتخذ مثالاً من هذه المحاولة للابتعاد عن الصراع والاستقطاب الذي تروج له قوى مثل الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل والصين والهند، وبدلاً من ذلك يركز العالم ومعظم سكانه على التعاطف والمصالحة وحل النزاعات والتحديات الكبرى التي نواجهها، وعلى رأسها البيئة. لقد أصبح من الواضح بشكل متزايد في القرن الحادي والعشرين أنَّ مواطني العديد من الدول لم يعودوا يشعرون بأنَّ حكوماتهم تتحدَّث نيابة عنهم أو عن أولوياتهم الحقيقية في العالم. حان الوقت لنتوحد ببساطة كأبناء هذا العالم، مدعومين من قبل عدد متزايد من الدول التي ترغب في بناء مستقبل أكثر إشراقاً لشعوبها وللآخرين، من خلال التقدم والاعتدال والتفاهم، مفضلين معالجة القضايا المهمة التي نواجهها كبشرية واحدة.

إخفاقات نظام الأمم المتحدة تجلَّت بشكل بارز في النزاع المستمر بين روسيا وأوكرانيا، وصراع غزة، والصراع المتجدد في جمهورية الكونغو الديمقراطية بسبب المعادن الثمينة. قُتل مئات الآلاف من الأشخاص في هذه الصراعات فقط خلال السنوات الأخيرة، وتعرض ملايين الأشخاص للتهجير، والدمار الذي لا يمكن تصوره الذي لحق بكامل البنية التحتية في غزة، وفي أوكرانيا واقتصادها المتأثر، وسبل عيش الناس في الكونغو وحدودها. وكان هناك فشل كبير آخر في مجال البيئة، بعد اتفاقية باريس التي تم تجاهلها إلى حد كبير، خصوصاً مع حقيقة أننا في عام 2024 تجاوزنا بالفعل ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية بمقدار 1.5 درجة مئوية التي كانت جهودنا المشتركة تهدف إلى تجنبها. ومع اقترابنا من نقاط التحول البيئية، قد يكلف الاقتصاد العالمي حرفياً تريليونات الدولارات من الخسائر السنوية بحلول عام 2030. نحن ندمّر الغابات التي توفر الأكسجين بمعدل 10 ملايين هكتار، مهددين مليون نوع بالانقراض في العقود القادمة بسبب سلوكنا المتهور، في حين أن التلوث في الهواء والأرض والماء يسبب بالفعل عشرات الملايين من الوفيات سنوياً. هذا ما يجب أن ينصب تركيزنا عليه.

الطريقة الوحيدة للخروج من الدوامة المميتة التي نواجهها هي أن نبدأ في التفكير بطرق مبتكرة، باستخدام قلوبنا وعقولنا معاً. أعتقد أن أغلب الدول الأفريقية والآسيوية والشرق أوسطية واللاتينية والأوروبية أيضاً تتوق إلى فرصة للانضمام إلى دول أخرى بعيداً عن القوى التي تروج للصراع ولا تعير اهتماماً للبيئة. معاً، متحالفين أيضاً مع الطبيعة الأم، يمكننا أن نحقق تأثيراً هائلاً في تهدئة الصراعات والمواجهات، بالإضافة إلى تعديل أولوياتنا وطريقة حياتنا للحفاظ على البيئة التي تدعم وجودنا ذاته. الغالبية العظمى من الناس مهتمة ليس بالصراع والمنافسة وتدمير كوكبنا من خلال الجشع، بل بتحسين الحياة وبيئتنا من خلال المسؤولية والعقلانية والتعاطف.

يمكن لهذه الحركة الجديدة من الدول المصطفة، ليس مع القوى الكبرى، بل مع حسن حال الناس في العالم والكوكب الذي نعيش فيه، أن تستلهم من حركة عدم الانحياز رفضها للصراع والهيمنة والاستغلال، وتبني المواقف الأخلاقية الواضحة في قلوبنا جميعاً. يحتاج العالم إلى أن يشمَّ أريجَ الجوري الجميل دون أن يتعرَّض لوخز الأشواك خلال ذلك.