أدهشني قول أحدهم، في ذروة الأحداث السورية الراهنة، إن «بشار الأسد لم يكن أول ديكتاتور يسقطه شعبه، لكنه كان أول ديكتاتور (ربما) يتمّ تحطيم هذا العدد من تماثيله وإسقاط صوره ونصبه التذكارية»! عادة تكون الصورة الثابتة أو المتحركة، فاقعة في التقاطها لحظة الذروة لـ«فورة» الشعب، لحظة انهيار السدّ واندفاعه كطوفان من المشاعر الجارفة المختلطة المحملّة بالنشوة والفرح والغضب أيضاً... لكنّ الأدب أكثر عمقاً في تسجيل تلك المشاهد.
لماذا يتم تفريغ الغضب على رؤوس التماثيل؟ لأن رمزية الديكتاتور في التماثيل مرتبطة بالهيمنة والسيطرة؛ لذا عند سقوطه يصبح تحطيم التمثال تعبيراً عن كسر السلطة الرمزية والجسدية للديكتاتور.
في الأدب، شخصية الديكتاتور منفوخة بشكل أكبر من شخصية صاحبه، ويمثل استعارة مكثفة للطغيان الذي يطمح البشر لكسره بأدوات مختلفة، بينها إسقاط التماثيل، لكن الطغاة يجري تحطيمهم على أيدي الأدباء بالرمزية الأدبية التي تستمر عبر الزمن.
أدباء أميركا اللاتينية أكثر مَن تناولوا موضوع الديكتاتور بشكل مكثف، يعينهم في ذلك تاريخ تلك المنطقة المُبتلى بالأنظمة الشمولية، والطغاة الذين تركوا بصمات عميقة من الأسى على شعوبهم؛ قدّم أوغستو روا باستوس رواية «أنا الأعلى» عام 1974، وفيها تناول شخصية ديكتاتور باراغواي، خوسيه دي فرانثيا، الذي حكم البلاد بين عامَي 1814 و1840، ومثله الأديب والشاعر الغواتيمالي ميغل أنخل أستورياس، الذي كتب رواية «السيد الرئيس» التي صدرت عام 1946، وتناول فيها سيرة كابريرا، الذي حكم بلده غواتيمالا 20 سنة حكماً ديكتاتورياً غاشماً، مرسِّخاً القمع والخوف والفساد. والروائي والصحافي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، الذي قدَّم رائعته «حفلة التيس» التي صدرت في عام 2000، ونجح من خلالها في ترصد ديكتاتور الدومينيكان، تروخيو، الذي حكم بلاده 31 عاماً بالقهر والجبروت والإذلال.
وأكثرهم طبعاً الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز في رواياته «خريف البطريرك»، و«مائة عام من العزلة»، و«الجنرال في متاهته»، وفيها جميعاً يبقى الديكتاتور رغم طغيانه وحيداً يعاني من العزلة. في رواية «خريف البطريرك»، يصور ماركيز حاكماً ديكتاتورياً عجوزاً يعاني الوحدة والانفصال عن الشعب في مجتمع متخيل، يستخدم فيها أسلوباً شعرياً ليكشف هشاشة الطاغية. الديكتاتور هنا يعيش في وهم القوة، بينما يتآكل نظامه في الواقع.
أما في «حفلة التيس» فيصوّر يوسا، سقوط الديكتاتور رافائيل تروخيو في جمهورية الدومينيكان، ويكشف وحشيته وكيف دمّر الخوفُ الذي زرعه حياةَ الأفراد. كان ذلك الديكتاتور يعتقد «حتى فاجأه الطوفان» بأنه يتحكَّم في الكون: «كان تروخيو يجلس هناك، كما لو كان يتحكم في مجرى الكون. كل حركة، كل كلمة، كانت محسوبة بعناية. لكن خلف تلك الهيبة كان هناك رجل عجوز، يطارده شبح ضعفه».
لكن، الثورات كالأيام «دُول» تتقلبّ من حال إلى حال. بعض طغاة اليوم كانوا ثواراً بالأمس، جاء بعضهم على ظهر الدبابة رافعاً شعار «وحدة، حرية، اشتراكية» على أنقاض حكومات سالفة، وانتهى بهم المطاف إلى أن أسكرتهم السلطة ونشوة القوة، فصاروا حبابرة ظالمين. وبعض ثوار اليوم هم مشاريع طغاة للمستقبل. هكذا تخبرنا تجارب الأيام.الخشية أن يصبح الثوار التقدميون صورة طبق الأصل عن الحكام الذين أسقطوهم وتصبح «الثورة تأكل أبناءها». في رواية «مائة عام من العزلة»، يوجه الجنرال مونكادو خطابه إلى الكولونيل أورليانو، قائلاً: «ما يقلقني ليس إعدامك لي، لأن هذا بالنسبة لأناس مثلنا أمر طبيعي... ما يقلقني هو أنك بعد كل أحقادك علينا ومحاربتنا بكل هذا العنف، قد انتهيت إلى صيرورتك أسوأ منا... ولم يعد في الحياة شيء يوازي هذه الوضاعة»!نستذكر رواية «الجنرال في متاهته» لغارسيا ماركيز، وهي تُصوِّر الأيام الأخيرة في حياة الثائر سيمون بوليفار، البطل القومي الذي قاد حركات التحرر في أميركا الجنوبية ضد الاستعمار الإسباني. لكنه بعد مشوار من الخيبات يظهر كرجل منهك، محبط، ومليء بالشكوك وهو يعيش أيامه الأخيرة بين الخيانة السياسية والإنهاك الجسدي، يقرر التنحي عن السلطة وترك حلم كولومبيا الكبرى، ليقضي أيامه الأخيرة على متن قارب وهو يبحر في نهر «ماجدالينا» متجهاً نحو المنفى... هنا تبرز هشاشة القادة الذين وصلوا للسلطة وصار يُنظَر إليهم كأبطال، بعد أن تتهاوى الهالة التي حولهم، مع الزمن ومع احتدام الصراعات، وتراكم الخلافات والمشاكل وتراكم معاناة الناس، وتفاقم أعباء القيادة، وفشل المشاريع التي كانوا يحملونها... مع الطامة الكبرى: شعور العظمة والجبروت واصطناع شرعية ذاتية أو متوهمة، لا تُستمَدّ من الشعب... كل هذه تفتت تدريجياً صورة البطل المثالي، والثورة المثالية، ويعيد التاريخ نفسه في قوالب جديدة!.