أشك في صحة معلومة سيد قطب بأنَّ الفلسفة الإسلامية تُدرّس في كل كليات الأزهر. فالأزهر عام 1949 مكوّنٌ من ثلاثِ كليات هي: «الشريعة»، و«اللغة العربية»، و«أصول الدين»، والفلسفة الإسلامية كانت تُدرّس - فقط - في الكلية الأخيرة. ولقد سايره محمد البهيّ في ردّه عليه مع علمه بأنَّ هذه المعلومة غير دقيقة، مدفوعاً بتحسين صورة الحرية العلمية في الأزهر وتجميل صورة تدريس الفلسفة فيه؛ لأنَّه كانت تجري أحياناً مفاضلة بين الدراسة في تعليم مدني مثل «جامعة فؤاد الأول» والدراسة في تعليم ديني مثل «الأزهر»، وتجري مفاضلة بين تدريس الفلسفة في «جامعة فؤاد الأول» وتدريسها في «الأزهر»، ومقارنة بين إنتاج مدرسي الفلسفة في «جامعة فؤاد الأول» ومدرسي «الأزهر». وقد اعترف محمد البهيَ في رده على أحد الكتاب بأنَّ في «جامعة فؤاد الأول» قدراً من الحرية العلمية لا يتوفر لأساتذة الفلسفة في «الأزهر»، لكن في ردّ آخر على كاتب آخر، بالغ في مقدار حرية البحث الجامعي الممنوح له من قبل إدارة «الأزهر»، ودافع عنه بأنه ليست فيه ثمة سلطة دينية على الآخرين ذات طابع كهنوتي!
في الطبعة الأولى من كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وليس في رسالته المفتوحة إلى توفيق الحكيم، أراد سيد قطب أن تكون الدراسات الإسلامية هي البديل لتدريس الفلسفة في المدارس الثانوية المصرية، والبديل لتدريس الفلسفة والفلسفة الإسلامية في «جامعة فؤاد الأول» وفي كلية «دار العلوم» فيها، وفي «جامعة فاروق الأول» وفي «الأزهر»، وأن يكتفى في هذه المؤسسات العلمية بتدريس نتفة من الفلسفة الإسلامية وبنتفة من الفلسفة بمعناها الشامل.
سمّى سيد قطب الدراسات الإسلامية بـ«دراسات إسلامية خالصة»، فما معنى «خالصة» هنا؟
إنَّ قوله بعد ذلك: هي التي «تقرر الفكرة الإسلامية الحقة، مبرأة مما يُسمّى الفلسفة الإسلامية»، لا يعرفنا تماماً بما سمّاه «دراسة إسلامية خالصة».
إن هذا التعريف تعريف ناقص؛ لأنه تعريف سلبي. تعريف سلبي بمعنى تعريف الشيء ليس بما هو عليه، بل بما هو ليس عليه. والأسوأ من هذا أنه تعريف من منظور إسلاميته المستجدة. فالدراسات الإسلامية عنده في هذا التعريف، هي التي تقوم على رفض الفلسفة الإسلامية لتأثرها بالفلسفة الإغريقية. إن رفض الفلسفة والفلسفة الإسلامية موقف قديم في التاريخ الإسلامي، قال به علماء دين، وقال به بعض المتكلمين، وقال به بعض المؤرخين، وفي العام الذي نشر به كتاب سيد قطب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» ونُشرت به رسالته المفتوحة إلى توفيق الحكيم في مجلة «الرسالة»، وهو عام 1949، كان بعض أساتذة «الأزهر»، غير موافقين على تدريس الفلسفة وتدريس الفلسفة الإسلامية في «الأزهر»؛ لكنه لا يقول مثلهم ومثل الذين سبقوهم في التاريخ الإسلامي بسبب ديني في رفض تدريسهما، لكيلا يُوصف عند الأدباء والمثقفين المصريين من ذوي الاتجاه العصري بالتزمت الديني والرجعية الفكرية!
«الفكرة الإسلامية» التي وصفها بـ«الحقة»... لم يكن يستخدم هذا الوصف بالمعنى العلمي والمنهجي بل يستخدمه بمعنى أرثوذكسي، فهو يقصد به الأصلي والأصيل والمستقيم في الفكر الديني السني. وهو من غير أن يصرّح مباشرة يعد كتابه أنموذجاً للدراسات الإسلامية «الخالصة» وللفكرة الإسلامية «الحقة»، مع أن تصوره العقدي للإسلام، عقيدة وسياسة واقتصاداً ومجتمعاً وتاريخاً، في كتابه ليس أصلياً ولا أصيلاً، بل فيه كثير من التصورات الدينية المحدثة، وتأثر معكوس بآيديولوجيات مباينة للإسلام، أبرزها الماركسية.
ومن غير الواضح إن كان سيد قطب يقصد بـ«الدراسات الإسلامية الخالصة» العلوم الدينية أو تصوره الآيديولوجي المحدث للإسلام أو هو يقصدهما معاً.
الفكرة الإسلامية، تعبيراً، هي من التعبيرات المنقولة عن الفكر الغربي. فهذا التعبير أو المصطلح غير مستعمل في التراث العربي والإسلامي القديم. فأين «الأصالة» في هذا التعبير الذي استعمله؟!
والدراسات الإسلامية بوصفها حقلاً علمياً هي حقل جديد أنشأه المستشرقون في أواخر القرن الثامن عشر، ويسمونه حيناً الدراسات الإسلامية، وحيناً الإسلاميات، وحيناً الثقافة الإسلامية. وقد عبرت عن هذا الحقل كتب ودراسات ومجلات عديدة ومتعددة بلغات أوروبية مختلفة. ولا أجادل في أن كثيراً منها كتب بغرض غير علمي، فغرضها كان الحط من شأن الإسلام من جوانب متعددة لدوافع متباينة. فالغرض العلمي المحض في قرون نشأتها الأولى توفّر في القليل منها.
ولأن مجالها مجال شاسع، ولأن موضوعاتها موضوعات واسعة، فيصعب تقديم تعريف بها. وكل ما يمكن قوله عنها أنها هي الدراسات المتصلة بالإسلام وبالمسلمين التي كتبها المستشرقون، وكانوا يستخدمون فيها مناهج متبعة في العلوم الإنسانية. ومع تطور العلوم الإنسانية استخدموا فيها مناهج متساوقة مع التطور الحادث في هذه العلوم.
ومن المفيد أن يعرف القارئ العام حال الدراسات الإسلامية في مصر في العام الذي صدر فيه كتاب سيد قطب، مصر التي كانت متقدمة على الدول العربية الآخذة بركب التقدم، والمؤثرة فيها وفي العالم العربي قاطبة، بتياراتها العصرية وبتياراتها الرجعية. وللحديث بقية.