د. حسن أبو طالب
كاتب مصري، يكتب في «الشرق الأوسط» منذ 2019. يعمل حالياً مستشاراً بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وعضو الهيئة الاستشارية العلمية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مُحكم ومستشار أكاديمي في العديد من مراكز البحوث العربية والدولية، وكاتب صحافي في جريدة «الأهرام». عمل سابقاً رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة دار المعارف»، ورئيس تحرير «مجلة أكتوبر» الأسبوعية، ومدير «مركز الأهرام الإقليمي للصحافة»، ورئيس تحرير «التقرير الاستراتيجي العربي» الذي يصدره مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، ونائب رئيس تحرير «الأهرام».
TT

«العمق الروسي»... مخاطر تغيير قواعد اللعبة

من الصعوبة بمكان تعريف «العُمق الروسي» الذي يتحدث عنه الرئيس الأوكراني زيليسنكي حين يطالب القوى الغربية، تحديداً الولايات المتحدة، بمنح بلاده صواريخَ بعيدةَ المدى من طراز «أتاكمز» الأميركي ذي السرعة العالية، ومدى يصل إلى 300 كم، أو رفع القيود عن استخدام صواريخ «ستورم شادو» البريطانية - الفرنسية الصنع ذات المكونات الأميركية ومدى يصل إلى 250 كم، لضرب أهداف استراتيجية داخل روسيا. غموض التحديد لمدى «العُمق الروسي» يمكن النظر إليه كأحد أبعاد الحرب النفسية ضد صانع القرار الروسي، كما يمكن النظر إليه كأحد أبعاد ما يصفه زيلينسكي بخطة النصر التي سيقدمها إلى البيت الأبيض قبل أن يشهد أي تحول رئاسي يعارض الرؤية الأوكرانية لهزيمة روسيا. وفي الأمرين يظل الغموض قائماً، ويظل باب التخيل مفتوحاً على مصراعيه.

مسألة «العُمق الروسي» متعددة الأبعاد؛ فأوكرانيا على لسان زيلينسكي دائماً ما تربط قدرتها على هزيمة روسيا وطرد قواتها من «دونتيسك»، شرق البلاد، بالحصول على المزيد من الأسلحة الغربية المتطورة، لا سيما الصواريخ بعيدة المدى، والطائرات الحديثة من قبيل «إف - 16» الأميركية وما يماثلها من الطائرات الأوروبية، وبطاريات الصواريخ المضادة للصواريخ. وجوهر الفكرة أنَّ عدم الحصول على تلك الأسلحة بعيدة المدى والقذائف ذات القدرات العالية يحد من قدرة الجيش الأوكراني، ومن ثم استمرار احتلال الأراضي الأوكرانية، وكأنَّ الرسالة الموجهة للغرب أنَّه يتحمَّل مسؤولية فشل أوكرانيا في تحقيق الانتصار المرغوب، على الرغم من كل الدعم التي توفر لها طوال مدة الحرب. وهو أمر يُنظر إليه من بعض القوى الغربية، ولو ضمناً، بقدر من الغضب باعتباره نوعاً من الجحود.

أميركياً، ثمة حرص شديد على عدم تغيير طبيعة الصراع من «غزو روسي» واحتلال أراضٍ غير مشروع ويجب إنهاؤه، ويبرر تقديم كافة المساعدات لكييف، إلى صراع إقليمي يبدأ أوروبياً، وقد يتدحرج إلى صراع عالمي يتورط فيه الناتو، ويشعل أزمة كبرى يصعب السيطرة عليها، ومن ثمة فإنَّ رفض واشنطن حتى اللحظة منح أوكرانيا الحق في استخدام صواريخ بعيدة المدى في الداخل الروسي البعيد، ما بين 250 كم إلى 300 كم من مواقع إطلاق قريبة من الحدود الأوكرانية الروسية، يعكس تخوف البيت الأبيض من التورط في حرب تعدُّ من وجهة نظر الأمن القومي الأميركي ضارة من كل الجوانب.

في هذا السياق، ترى تقديرات منسوبة إلى مراكز استخباراتية أميركية وغربية أن تهديدات الرئيس الروسي بوتين باستخدام الأسلحة النووية مُبالغ فيها، ولا تخرج عن كونها تهديداً دعائياً أكثر منه تهديداً فعلياً، وأن ردود أفعاله السابقة عن اختراقات أوكرانية بدعم غربي مكشوف لأهداف روسية في القرم، وفي البحر الأسود ومناطق حدودية مختلفة، وحتى في منطقة كورسك التي اخترقتها القوات الأوكرانية، مطلع أغسطس (آب) الماضي، لم تؤدِ إلى تغيير درامي في رد فعل موسكو عملياً، وهو أمر قد يتكرر إذا ما سُمح لأوكرانيا باستخدام بعض صواريخ بعيدة المدى توجه للعمق الروسي، كرسالة تحدٍ تساعد على تغيير قواعد اللعبة مرحلياً، وتقنع موسكو بتسوية سياسية تتضمَّن انسحاباً من الأراضي الأوكرانية.

مثل هذه التقديرات تتجاهل حقيقة أنَّ ضرب «العُمق الروسي»، سواء أخد ضرب قواعد عسكرية كبرى، أو مراكز اتصال رئيسية مدنية أو عسكرية، أو مدن روسية كبرى، سيُعد تهديداً وجودياً وفقاً للتعريفات الواردة في استراتيجية الدفاع الروسية، يستدعي استخدام أسلحة نوعية، نووية أو غيرها. وعلى هذا النحو، فإن التقديرات الاستخباراتية الأوكرانية والغربية التي تقلل من رد الفعل الروسي تبدو محملة بمخاطر غير محسوبة وغير مرغوبة على الأقل في المرحلة الراهنة، حيث الانتخابات الرئاسية الأميركية المُشحونة بالقلق واللايقين، واتجاهات التململ المتصاعدة في العديد من المجتمعات الأوروبية تجاه الدعم غير المسبوق لأوكرانيا، واستبعاد الحلول السياسية تماماً.

ومن المهم ملاحظة أن الهدف الأميركي الاستراتيجي من دعم أوكرانيا يكمن في توريط روسيا والرئيس بوتين في حرب استنزاف طويلة المدى، لا يحقق من ورائها سوى التراجع الاقتصادي والتهميش السياسي دولياً والعجز العسكري. مع انتظار تغييرات في الداخل الروسي ولو بعد حين تنقلب على إرث الرئيس بوتين، وتقود إلى التراجع عن ضم أراضٍ أوكرانية، والاعتراف بحق كييف بالانضمام إلى حلف الناتو، وقبول موسكو في عهدها الجديد المنتظر أن تكون بلداً أقل طموحاً دولياً، وأقل رفضاً للتغييرات الجيوسياسية التي يحققها الناتو حول روسيا شرقاً وغرباً.

هزيمة موسكو والانقلاب على إرث الرئيس بوتين، لا سيما شقه المتعلق بتحدي الهيمنة الأميركية، من شأنه حسب التحليل الاستراتيجي الأميركي أن يدفع بكين لإعادة حساباتها تجاه ضم تايوان عسكرياً من ناحية، وخفض دعمها لروسيا وتحديداً تحركات تحدي الهيمنة من ناحية أخرى.

الهدف الأميركي على هذا النحو ليس هدفاً يمكن تحقيقه في مدى زمني منظور، طبيعته الاستراتيجية تعني الاستمرار في المواجهة عبر أوكرانيا لمدى زمني أطول، مع الحفاظ بقدر الإمكان على طبيعته الحالية كحرب بين طرفين مباشرين في جغرافيا محددة، مع ضبط دعم الناتو لكييف لتحقيق هذا الهدف، والحد من أي محاولات لتغيير تلك الاستراتيجية.

استبعاد «العمق الروسي»، الذي يرغب فيه الرئيس زيلينسكي، يمثل مرتكزاً في السياسة الأميركية، في الوقت ذاته يحافظ على أهم مصلحتين أميركيتين في المدى المنظور، الحفاظ على مخزون الصواريخ الأميركية بعيدة المدى، توفير مساحة واسعة جداً لمصانع الأسلحة الأميركية لإنتاج أسلحة دفاعية يسهل توريدها لكييف.