يحفل عالمنا بكثير من التحديات الصعبة، التي تتطلّب استجابات عاجلة؛ ومنها على سبيل المثال ما يتعلّق بالتغيرات المُناخية الحادة، أو الجوائح والأوبئة، أو الذكاء الاصطناعي وتطوراته المتسارعة والمذهلة، فضلاً بالطبع عن التحديات المُزمنة التي تتجسّد في الفقر والطغيان والنزاعات والحروب، التي تشتعل في بقاع عديدة من العالم.
ولا يُمكن توقع استجابات ناجعة للتعامل مع تلك التحديات من دون درجة واضحة من التوافق بشأن خطورتها، ثم اليقين في أن ثمة سبلاً محددة يمكن من خلالها التصدي لها، وتخفيف أثرها، ثم توافر الهمة اللازمة والإرادة والموارد الكافية للتجاوب معها.
لقد سعت بعض مراكز التفكير الكبيرة إلى تعيين التحديات المؤثرة على الصعيد العالمي، بل إلى ترتيبها لجهة أهميتها وخطورتها كذلك، وفي كل الأحوال لم يكن هناك خلاف على أن الأخبار المُضللة، الناشئة عن الوسط الاتصالي الراهن، ودور وسائل «التواصل الاجتماعي» فيه، تأتي في مقدمة تلك التحديات.
كما كان لافتاً أن هذا التوافق النادر عبر العالم لم يستثنِ الحكومات والمُشرعين والنُّخب وأفراد الجمهور العادي، وحتى صُناع المشكلة نفسها؛ أي مالكي ومشغلي شركات التكنولوجيا الكبرى القائمة على النظام الاتصالي العالمي، بجوانبه المختلفة.
يقر الجميع، من دون استثناء تقريباً، بأن الأخبار المُضللة مشكلة عالمية خطيرة ومؤثرة، وبأن مفاعيلها قادرة على الوصول إلى شتى جوانب حياتنا، بل قادرة أيضاً على تقويض السلم والاستقرار، وعلى سلب الإنسان الفرد مقومات الحكم الذاتي العقلاني، وعلى تجريد المجتمعات من فضيلة اتخاذ القرارات الصائبة.
ليست الأخبار المضللة مشكلة طارئة... هذا صحيح. فقد كانت موجودة في زمن الإعلام «التقليدي»، وكانت قادرة على إحداث الأثر السلبي، وهو أمر لا يمكن دحضه. لكن ديناميات النظام الاتصالي الراهن، بطاقتها الفريدة وخوارزمياتها النافذة وتمددها الشبكي وانتشارها القياسي، جعلت من تلك المشكلة قضية عابرة للحدود والمجتمعات وشتى جوانب الحياة، وجعلتها أيضاً جزءاً من آليات الصراع الدولي، والتنافس المحلي.
ولذلك، فقد حدد استطلاع للرأي أجراه «المنتدى الاقتصادي العالمي»، أخيراً، قضية «المعلومات المُضللة» باعتبارها «الخطر العالمي الأول للعامين المُقبلين»، بعدما كان تعبير «الأخبار المُفبركة» أكثر التعبيرات تأثيراً وحضوراً على الصعيد العالمي، وفق قاموس «كولينز»، لعام 2017.
واليوم، لا نجد رفضاً أو تقليلاً من خطورة «الفبركة» والأخبار المُضللة، حتى بين أبرز عرّابي الوسط الاتصالي العالمي الراهن وأقطابه المؤثرين، الذين اتفقوا جميعاً، بلا استثناء، على أنهم يرصدون هذا التحدي، ويدركون خطورته، و«يبذلون الجهود» لمواجهته.
وبين هؤلاء يبرز الملياردير الأميركي بيل غيتس، المؤسس المُشارك لشركة «مايكروسوفت»، وأحد الفاعلين البارزين المُهتمين بـ«مواجهة الأخطار العالمية» بأنواعها المُختلفة، الذي أبلغنا، من خلال مقابلة مع شبكة «سي إن بي سي»، في الأسبوع الماضي، أن «مشكلة الأخبار المُضللة سيتم تسليمها إلى الجيل الأصغر سناً»، بسبب عدم وجود حل واضح لإبطاء انتشارها.
ويوضح غيتس فكرته بالقول إن مشاكل من نوع الجوائح والتغير المُناخي، ليست سهلة الحل، لكن «مواجهتها مُمكنة وأقل صعوبة، لأن ثمة مسارات واضحة للتغلب عليها»، وهو الأمر الذي نفهم منه أن قضية الأخبار المُضللة لا تتوافر على مسارات واضحة لمواجهتها، أو هكذا أراد لنا غيتس أن نفهم.
يريد لنا غيتس، وغيره من عرّابي الوسط الاتصالي العالمي الراهن، أن نستسلم لفكرة أن الأخبار المُضللة «مسألة قدَرية»، ومشكلة بلا حل، سنسلّمها إلى الأجيال المُقبلة، لأنه لا سبيل واضحاً لحلها أو التعامل معها، وهنا تكمن المغالطة الكبرى.
والشاهد أن مشكلة الأخبار المُضللة إنما تكمن في قلب أنموذج الأعمال الذي تقوم عليه وسائط «التواصل الاجتماعي»؛ لأن تلك الأخيرة، ببساطة، تستديم وتزدهر بالتفاعل الذي لن تحد منه بإرادتها الحرة، وبـ«خرق الأسقف» الذي ستراوغ لإدامته، بما يجلب لها مزيداً من الزبائن والأرباح.
لمشكلة الأخبار المُضللة حلّ بكل تأكيد، لكن هذا الحل لن يُفعّل من دون موافقة عرّابي الوسط الاتصالي العالمي الراهن، أو حملهم على التخلّي عن عنصر جوهري من أنموذج أعمالهم، وهو عنصر الإتاحة المقرون بعدم وجود القدر اللازم من المساءلة للمتفاعلين.
سيبدأ حل مشكلة الأخبار المُضللة عندما يتفق الإطار الاتصالي العالمي على ضرورة إخضاع المدونين، أو «الإعلاميين الجدد»، أو «الصحافيين المواطنين»، أو المتفاعلين عبر الوسائط الرائجة، لنوع من التسجيل، والإفصاح الشفاف عن الهوية، قبل مساءلتهم عمّا يبثّونه ويروّجون له من أخبار «مُفبركة»، ثم اتخاذ إجراءات بحق المتلاعبين، من دون الجور على حرية الرأي والتعبير، وهو أمر لن يُرضي أصحاب تلك الوسائط، لأنه سيُحد من ميزتهم النسبية، وسيُقلّص التفاعلات عبر منصاتهم... التي هي مناجم ثروة ونفوذ لا تنضب.