لم ترَ إحدى الخبيرات في الاستخبارات الأميركية، في زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى كوريا الشمالية، إلا كونه «شخصاً يائساً» من توجه بلاده نحو الغرب، فقرر أن يتجه ناحية الشرق. الوصف ذاته استخدمه جون كيربي، مستشار الأمن القومي، معتبراً أن اتفاقية الشراكة الاستراتيجية التي وقَّعها الرئيسان بوتين وكيم «علامة على يأس روسيا؛ لأنها تحتاج إلى مساعدة خارجية في حربها ضد أوكرانيا». ولم ترَ الخبيرة ذاتها -وفقاً لما نشره موقع «يورو نيوز» الإخباري- في الرئيس الكوري الشمالي سوى شخص لا يتمتع بصحة جيدة، وأنهم في الاستخبارات المركزية يتابعون صحته من كثب. مثل هذه التحليلات السطحية لخبيرة في أقوى جهاز للاستخبارات في عالمنا المعاصر لا تدعو للأسف وحسب؛ بل للقلق من هكذا مستوى يُفترض أنه يتأمل الحدث بعمق وبصيرة، لا تُغفل دلالاته، وما الذي يتولد عنه من واقع جديد.
ما يهمنا أن مثل هذه التحليلات السطحية الهادفة إلى تقزيم الحدث وشخوصه، لا تخفي أن هناك قدراً من القلق تستشعره واشنطن وحلفاؤها، فالزيارة وتوقيع اتفاقية شراكة استراتيجية تضمنت بنداً مهماً لا يُذكر إلا في وثائق التحالف الكبرى بين الدول، وهو البند المتعلق بتعهد الطرفين بتقديم الدعم، بعضهما لبعض، إذا تعرض أحدهما لعدوان خارجي. في حالة كوريا الشمالية، ووفقاً لقناعتها، العدوان الخارجي مصدره معروف، بقيادة الولايات المتحدة وشركائها في آسيا وأوروبا، ولم يصل إلى طابعه العسكري المباشر بعد، ولكنه مشهود ومؤثر في مجاله الاقتصادي والدبلوماسي. وفي حالة روسيا فهي تواجه بالفعل ما تعدُّه عدواناً يستهدف وجود الدولة الروسية ذاتها، يمزج بين الضغط العسكري -ممثلاً في تقديم دعم عسكري بلا قيود لأوكرانيا لتهديد الداخل الروسي- وعقوبات تزداد اتساعاً وشمولاً بهدف استنزاف الاقتصاد الروسي وكسر النظام ورئيسه.
تعرض الطرفان لأنواع متعددة من الضغوط، مصدرها الغرب، توفر أسباباً رئيسية لتوجه البلدين لتعزيز علاقتهما الثنائية للحد من تأثير تلك الضغوط، والوصول بتلك العلاقات إلى مرتبة تحالف أو قريبة منها، في ظل قناعة كبرى ومشتركة مفادها أن النظام الدولي بحاجة إلى إعادة هيكلة كلية، كما أن البيئة الأمنية في آسيا -وهي الأقرب للطرفين- بحاجة إلى إعادة بلورة وفق مفاهيم جديدة، تتخلص من هيمنة الغرب ممثلة في مساعي حلف «الناتو» ليشكل لنفسه قواعد ومرتكزات في شرق آسيا، تشكل بدورها تهديداً مباشراً للبلدين. وعلى هذا النحو من التفكير والديناميكية السياسية، لا مجال لمفاهيم سطحية من قبيل اليأس واعتلال الصحة.
سعي روسيا لبناء توازن دولي جديد يقلص هيمنة الغرب هو أمر مشهود، ويصاحبه سعي آخر لتأكيد مكانة روسيا في الشؤون الدولية كلها، وسعي ثالث يتضمن رسائل رمزية بأن بوتين شخصياً ليس معزولاً كما يهدف الغرب، وأن لديه أصدقاء يقدّرون الصداقة والشراكة مع روسيا ومع رئيسها. وهي شراكة عملية تتضمن قدرات مهمة يمكن لروسيا أن تقدمها لهؤلاء الأصدقاء، تمثل رصيداً حيوياً لهم، سواء من صادرات النفط والغاز ذات الأسعار المتميزة، وصفقات الأسلحة ذات التسهيلات التمويلية، والخبرات التقنية في مجالات الفضاء والأسلحة النووية، ومنح غذائية من دون مقابل، ومستشارين عسكريين لمن يرغب ليحلوا محل نظرائهم الغربيين الذين رحلوا عن بلدان هيمنوا عليها لعقود، ونهبوا ثرواتها، كما يحدث بالفعل في دول أفريقية نفضت عن نفسها غبار الوجود الأوروبي.
وبالنسبة إلى كوريا الشمالية، فالأمر ليس مجرد تبادل لصفقات أسلحة تساعد موسكو في حربها في أوكرانيا، وتبادل خبرات تقنية عسكرية روسية؛ لا سيما في مجال الصواريخ الباليستية والدفاع الجوي؛ بل يتضمن مجالات متعددة، كتبادل الطلاب بين جامعات البلدين، وتعزيز السياحة والتبادل الثقافي والفني، وشحنات غذائية روسية يحتاجها الاقتصاد الكوري الشمالي بشدة، ما يعنى شمول التفاعلات الثنائية التي تخلق واقعاً جديداً يضرب بعمق العقوبات الدولية على بيونغ يانغ.
الأمر ذاته يمتد إلى زيارة الرئيس بوتين إلى فيتنام التي تحرص على علاقاتها القديمة التاريخية مع روسيا، وريثة الاتحاد السوفياتي، ومصدر التسليح الرئيسي لعقود، وفي الوقت ذاته الانفتاح على علاقات جديدة مع الغرب والولايات المتحدة، قوامها أن تحل فيتنام محل سلاسل التوريد الصينية، من دون أن يعني ذلك التخلي عن علاقات الشراكة مع روسيا التي بدورها تظل حريصة على تطوير تلك الشراكات، تسليحياً واقتصادياً وتجارياً، مع التحول إلى التبادل التجاري بالعملات الوطنية، بعيداً عن المسارات الغربية، كامتداد للجهود الروسية في وضع لبنات عملية تراكمية لنظام مالي عالمي جديد يتخلص من هيمنة الدولار.
الزيارتان وما فيهما من تلميحات بتزويد دول مختلفة بأسلحة روسية متقدمة، وتغيير العقيدة النووية الروسية، بما تتضمنه من إمكانية استخدام أسلحة نووية تكتيكية، كالتي يبحث استخدامها حلف «الناتو»، وعدم التخلي عن الضربة النووية الثانية، ولكن بشمول واتساع في المدى، وتغيير معطيات البيئة الأمنية في آسيا، تعبران عن إصرار الدولة الروسية على التغيير التدريجي لنظام دولي جديد، عبر آليات متنوعة تمتلك منها موسكو الكثير، على الرغم من العقوبات والحصار السياسي.