يمر لبنان بمرحلة صعبة وحساسة من تاريخه الحديث؛ حيث بلغت هشاشة الوضع الداخلي مراحل متقدمة وخطيرة تنذر بعواقب وخيمة لا سيّما في ضوء الانقسام السياسي الكبير بين الأطراف، وفي ظل الشلل شبه التام للمؤسسات الدستوريّة بعد مرور أشهر طويلة على انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون في الحادي والثلاثين من أكتوبر (تشرين الأول) 2022 من دون تمكن المجلس النيابي من انتخاب خلف له؛ نتيجة الخلاف على المقاربات الدستوريّة بين الأطراف المحلية المتعددة.
وشهد لبنان خلال الأيام المنصرمة توتراً سياسياً وأمنيّاً على خلفيّة مقتل أحد مسؤولي حزب «القوات اللبنانيّة»، بينما تضاربت الروايات حيال طبيعة الحادثة واستهدافاتها الحقيقيّة. وبمعزل عن الشق الإشكالي المتصل بخلفيّات الجريمة وما إذا كانت سياسيّة حقاً أم أنها في إطار السرقة؛ إلا أن الأكيد أنها كشفت عورات وهشاشة النظام السياسي اللبناني، ومخاطر الانزلاق السريع مجدداً إلى أتون التوترات الأهليّة بما يماثل حقبة الحرب المدمرة التي شهدها لبنان بين عامي 1975 و 1990.
المهم أن المطلوب ألا تكون مرحلة ما بعد هذه الحادثة مماثلة لما قبلها، فالحاجة ملحة لإعادة بناء واقع سياسي جديد في لبنان، يبدأ حتماً من خلال انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، وهذا متاح من خلال خطوتين رئيسيتين: الأولى، الإقلاع عن انتظار التفاهمات الخارجيّة (سواء أكان عبر اللجنة الخماسيّة التي تضم السعودية ومصر وقطر وفرنسا والولايات المتحدة، أو عبر سواها) والذهاب نحو «لبننة» الاستحقاق مهما كان يُنظر إلى هذا الطرح أنه «طفولي» أو «تبسيطي»، إذ لا بد من المحاولة لممارسة السيادة وعدم انتظار الإيحاءات الخارجيّة؛ لأن ذلك معيب بحق لبنان واللبنانيين وطموحاتهم بدولة مستقلة وقادرة.
أما الخطوة الثانية، فتكمن أيضاً في بناء رؤية وطنيّة للتعاطي مع ملف النزوح السوري التي لم يعد ممكناً التغاضي عنها أو إشاحة النظر في اتجاهات أخرى، وهذا الواقع المستجد لم يعد يحتمل التأجيل. وبالمناسبة، بقدر ما تسرع الحكومة اللبنانيّة في رسم خطة واضحة، وتسعى لتسويقها مع المجتمع الدولي، بقدر ما يوفر ذلك على البلاد توترات متنقلة قد يخرج بعضها عن السيطرة بما لا تُحمد عقباه إزاء الأحداث المتسارعة من كل حدب وصوب.
وبطبيعة الحال، العلاج لا يكون بالردود الانتقاميّة الهوجاء من النازحين السوريين وبشكل اعتباطي من دون أن يكون لهؤلاء أي ذنب، وقد شهدت بعض المناطق اللبنانيّة أعمالاً مماثلة وهي مرشحة للتوسع، وأن تأخذ طابعاً عنصرياً مقيتاً سرعان ما قد تتنامى موجاته، وتحوّل نفسها إلى قاعدة معتمدة في المجتمع اللبناني خصوصاً في أوساط ومناطق معيّنة.
ولكن المراوحة السياسيّة التي يشهدها هذا الملف، وغياب التعاون من قبل النظام السوري بخصوصه لعدم رغبته بإعادة النازحين أولاً، ولعدم استعداده تقديم هدايا مجانيّة للبنان ثانياً، تجعل الملف أكثر صعوبة وتعقيداً، وأكثر خطورة أيضاً. كما أن ما يُحكى عن رغبة دفينة، بدأ بعضها يخرج إلى العلن، لدى بعض الحكومات الغربيّة والأوروبيّة لعدم إعادة النازحين إلى بلادهم، يؤدي عمليّاً لأن يدفع لبنان الثمن، وهو ثمن باهظ حتماً.
لبنان لا يستطيع تحمّل توطين النازحين. تركيبته السياسيّة والجغرافيّة والديموغرافيّة لا تسمح بذلك، لأن من شأن هذه الخطوة إحداث اهتزاز كبير في أساساته الهشة أصلاً. كما أن الحل لا يمكن توفيره من خلال إشعال مواجهة بين المجتمعات المحليّة اللبنانيّة وبين النازحين السوريين المقيمين بغالبيتهم الساحقة في مختلف القرى والبلدات اللبنانيّة، وليس في مخيمات للنازحين التي رفضت أطراف لبنانيّة إقامتها في مطلع عمليّة النزوح في عام 2011 لأنها كانت تتخوّف من تكرار تجربة اللاجئين الفلسطينيين، وسرعان ما تبيّنت فداحة خطأ المقارنة وفداحة خطأ عدم إقامة تلك المخيمات.
في مجال آخر، من الضروري الانتباه إلى أن فتح ملف النازحين السوريين في هذا التوقيت بالذات، رغم أحقيته وأهميته، إلا أنه يفترض ألا يشيح النظر عن مسائل وطنيّة أخرى لا تقل خطورة منها مثلاً الحرب الإسرائيليّة المتواصلة على الجنوب وبعض مراحلها كانت شديدة الضراوة، وألحقت بلبنان والجنوبيين خسائر كبيرة، ولا تزال.
معالجة قضيّة النزوح السوري يفترض أن تتصدّر الأولويّات عند العهد الرئاسي الجديد، بما يتيح فتح الملف على مصراعيه، بدءاً بتحميل المجتمع الدولي مسؤولياته في هذا الإطار وعدم القبول بالتغاضي عنه، وهذا يتطلب - قبل كل أمر آخر - أن تكون هناك جبهة لبنانيّة داخليّة موحدة تسعى إلى تنفيذ رؤية موحدة ومتراصة وعلميّة تحترم سيادة لبنان وخصوصيته، وتحافظ على أمن وسلامة هؤلاء النازحين مهما كان الأمر.
القضيّة معقدة حتماً، ولكنها ليست مستحيلة. لا بد من نقطة بداية ما، ولعلها تكون في انتخاب الرئيس اللبناني العتيد.