إياد أبو شقرا
صحافي وباحث لبناني، تلقى تعليمه العالي في الجامعة الأميركية في بيروت (لبنان)، وجامعة لندن (بريطانيا). عمل مع «الشرق الأوسط» منذ أواخر عقد السبعينات وحتى اليوم، وتدرج في عدد من المواقع والمسؤوليات؛ بينها كبير المحررين، ومدير التحرير، ورئيس وحدة الأبحاث، وسكرتير هيئة التحرير.
TT

صمتان مختلفا الأسباب على الجبهتين التركية والإيرانية

استمع إلى المقالة

توجّه الناخبون الأتراك اليوم إلى مراكز الاقتراع للتصويت في الانتخابات المحلية. ويأتي هذا «الاختبار» السياسي في تركيا، إحدى القوى الثلاث المتنافسة على الهيمنة الإقليمية في الشرق الأدنى - بإذن الولايات المتحدة - مع توجّه الأنظار إلى ما تفعله القوتان الأخريان، إسرائيل وإيران، بكيانات المنطقة الهشّة.

مأساة غزة، على بشاعتها وفظاعتها، مرشّحة في ظل اشتداد حرب الإبادة والتهجير التي تنفذها إسرائيل، للتعميم داخل الأراضي الفلسطينية، وأيضاً في مناطق واسعة من لبنان وسوريا، مع التنبّه لخطر ممكن على الأردن.

وعلى الرغم من الثرثرة الإلهائية الفارغة عن «جهود وساطة» تُبذَل لوقف الإبادة، ووجود «خلافات» بين تل أبيب وواشنطن على «سيناريو» الساعات والأيام المقبلة، يؤكد «جسر» توريد الأسلحة والذخائر الأميركية المتواصل بأن لا خلافات إطلاقاً بين العاصمتين على الاستراتيجية العامة على مستوى الشرق الأدنى.

الحقيقة أنَّ خطط التهجير المفضية إلى إعادة رسم الخرائط... ماضية قدماً.

في مناطق عدة من العراق هناك واقع تهجيري واضح. ناهيك من أنَّ التقسيم الرسمي للعراق كاد يتحقق بعد 2003، لولا الرفض التركي استفراد المكوّن الكردي بتقرير مصير الأقلية التركمانية، وتحديداً، في كركوك ومحيطها.

وفي سوريا أيضاً من العبث تجاهل التقسيم الفعلي الذي خلق ما لا يقل عن خمسة كيانات، كلّ منها تتحكّم فيه جهة محلية مدعومة إقليمياً أو دولياً، هي:

- الساحل، بما فيه جبال العلويين ووادي النصارى، حيث الأقلية العلوية والمرافق البحرية الروسية.

- شمال حلب، حيث النفوذ التركي.

- شرق الفرات، حيث «التفاهم» الكردي - الأميركي.

- شريط الوسط الممتد من البوكمال إلى لبنان، وهو «الممر الإيراني»، وما تبقّى للنظام من مناطق جزء كبير منها مهجَّر.

- الجنوب، من بادية الشام شرقاً إلى الجولان المحتل غرباً، الذي يُنتظر حسم مصيره خلال الفترة المقبلة، على خلفية «المساومة» بالسلاح بين إسرائيل وإيران.

ثم هناك لبنان. لبنان الذي يعيش راهناً فترة قلق غير مسبوقة وسط فراغ وانسداد سياسيين يفاقمهما «إسقاط» آلة الحرب الإسرائيلية ما كان حتى الأسابيع الأخيرة «قواعد اشتباك» ذات سقوف متفاهَم عليها.

إسقاط «قواعد الاشتباك» يؤكده حالياً توسيع إسرائيل دائرة استهدافاتها قصفاً وتدميراً واغتيالات لتشمل «عموم الجغرافية اللبنانية». ويقابل ذلك سعي «حزب الله» إلى تبريد الوضع وتجنّب التصعيد، كما أوحت مهمة الحاج وفيق صفا، كبير مسؤولي أمن الحزب، في منطقة الخليج. وبالفعل، أجّل السيد حسن نصر الله، أمين عام «حزب الله»، التطرق إلى الوضع السياسي في كلمته مساء أول من أمس... ورحّل ذلك إلى «يوم القدس» يوم الجمعة المقبل.

ومن جهة ثانية، انتشرت خلال الأيام الفائتة تسريبات مؤداها أنَّ إحجام «حزب الله» عن التصعيد – بعكس التهديدات السابقة لأمينه العام – تقرّر بعد «رسالة» من طهران، أوضحت أنَّ إيران لن تكون طرفاً في أي مواجهة مقبلة في المنطقة. وهذا، يعني سقوط استراتيجية «وحدة الساحات»، أقلّه في الساحة اللبنانية.

السؤال المطروح الآن... هو هل قرّرت إيران أن تتعامل مع لبنان و«حزب الله» كما تعاملت مع غزة و«حماس»؟ وإذا كانت هناك صفقة فما هي حدودها؟ وما هي أثمانها؟

ثم إنَّ أي تغيّر في الدور الإقليمي الإيراني لا بد أن ينعكس – بصورة أو بأخرى – على الدور التركي. ولئن كانت استراتيجية طهران الإقليمية قامت علناً على استخدام الورقة الشيعية واستثمارها سياسياً وديمغرافياً، فإنَّ مقاربات أنقرة إبّان «حقبة» رجب طيب إردوغان سعت - بهدوء - إلى الاستفادة من الورقة السنيّة، وتصوير نفسها حامياً للسنّة ومدافعاً عنهم في سوريا والعراق.

لكن نجاح طهران في فرض نفوذها على أربع دول عربية لم يتكرّر مع «أنقرة إردوغان». إذ بينما رفضت واشنطن وقف التمدّد الإيراني - بل غضّت عنه الطرف، ولم تحاربه إلا بالكلام - رأيناها تمتنع عن تقديم الدعم لأنقرة عندما احتاجته الأخيرة... مع أن تركيا دولة عضو في حلف شمال الأطلسي «ناتو»!

وبعدها، أضعفت السياسة الأميركية أكثر صدقية أنقرة، عندما أجبرتها على التراجع عن مواقفها المعلنة عام 2011 دعماً للثورة السورية، بمجرد تعرض أنقرة لتهديدات روسيا التي أعلنت تبنيها نظام الأسد بالكامل.

وهكذا، وافق الزعيم التركي على التعاون مع الإيرانيين والروس في «مسار آستانة» المراد منه وأد الثورة السورية. ثم، وجد مبرّراً يدافع به عن تراجعه هو وقوف معارضيه، وعلى رأسهم حزب الشعب الجمهوري، ضد اللجوء السوري وشنّهم حملة عنصرية شعواء ضد اللاجئين.

إنَّ انتخابات اليوم في تركيا انتخابات محلية. وهذا صحيح. بيد أنَّها في الوقت عينه اختبار للصدقية والشعبية بين القوتين السياسيتين الأكبر، أي حزب العدالة والتنمية بزعامة إردوغان، وحزب الشعب الجمهوري... الذي يعتبر نفسه «الوريث» التاريخي الحقيقي للتركة الأتاتوركية العلمانية.

حزب العدالة والتنمية يسيطر اليوم على 39 بلدية، بينما لحزب الشعب الجمهوري 21 بلدية. وتتوزّع البلديات الأخرى على ثلاثة أحزاب أخرى. غير أن الأهم من هذه الأرقام كيف ستصوّت «مراكز الثقل» السياسي، وعلى رأسها إسطنبول، كبرى حواضر البلاد، وخلفها العاصمة لأنقرة، ثم مدينة إزمير.

إنَّ القوتين الحزبيتين الأكبر تعتبران إسطنبول «حلبة الحلبات»... فإمَّا يحتفظ برئاسة بلديتها أكرم إمام أوغلو (من حزب الشعب الجمهوري)، فيؤكد أنَّه سيكون مرشح المعارضة الأبرز في انتخابات الرئاسة المقبلة. أو يستعيد حزب العدالة والتنمية سيطرته على «العاصمة العثمانية» التاريخية التي انطلق منها رجب طيب إردوغان نحو السلطة.

وهكذا، فنحن إزاء صمتين إيراني وتركي... يقابله قرع طبول الحرب الإسرائيلية. لكن هذين الصمتين، وإن دلَّا على ضعف موقفي طهران وأنقرة، تظل أسبابهما مختلفة وكذلك أثمانهما... في ظل احتكار واشنطن القرار الدولي.