توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

أي الأمم أذكى... نحن أم الأميركيون؟

استمع إلى المقالة

النقاش حول تفاوت العقول والثقافات بين الأمم والمجتمعات، يفتح الباب على قضايا كثيرة، ربما نود تناسيها. لكنه أيضاً يكشف عن مفاهيم جديرة بالتأمل. خذ مثلاً معنى العقل: هل يساوي الذكاء، أم الثقافة، أم الاتزان، أم القدرة على التفكر، أي الفك والربط؟ هذه - كما نعرف - معانٍ ذكرها باحثون في مختلف الأزمنة. لكن لو سألنا أنفسنا: هل توجد حقاً أمة بكاملها أذكى من الأمم الأخرى، أو أكثر ثقافةً، أو اتزاناً؟

لو سألت شخصاً من الصين مثلاً، فسوف يبادر بالقول إنَّ الصينيين أكثر ذكاءً. وسيدلل على قوله بعشرات الشواهد عن التاريخ الحضاري القديم، والتقدم التقني الراهن، وتفوق التلاميذ الصينيين في الرياضيات... إلخ. ولو سألت عربياً لضرب لك أمثلة أخرى، ولو سألت إسرائيلياً لفعل الشيء نفسه، وهكذا.

تلك شواهد صحيحة بالتأكيد. وكل منها يدل على أن هذه الأمة أو تلك، تتمتع بذكاء أو ثقافة أو اتزان أو قدرة على التفكيك والربط. لكن المقارنة لا تثبت أبداً أنَّ هذه الأمة أذكى من تلك، بمعنى أنَّ صفات الذكاء أعلى من نظيرتها في الأمم الأخرى، وأنها جارية في أنسابهم وجيناتهم. الأميركيون في مقدمة أمم العالم اليوم. لكنَّهم لم يوجدوا قبل عام 1600 حين بدأت أولى الهجرات من أوروبا. الصينيون متقدمون في جوانب كثيرة في الماضي والحاضر، لكن هذا ليس حالهم على الدوام، فقد مرّوا بأزمان مات فيها الآلاف منهم، بسبب المجاعة. والمجاعة لا تأتي إلا من التخلف والبؤس. وكان العرب أقوى الأمم في أزمان سابقة، وليسوا اليوم كذلك. وكان البرتغاليون سادة البحار في يوم من الأيام، بينما لا تكاد تسمع بهم اليوم.

نفترض أن هذا يكفي لنفي الصلة بين العقل والنسب. كما يوضح أن اختلاف العقول هو اختلاف ثقافات، أي تنوع يسير أفقياً نحو اليمين أو نحو الشمال. فلكل أمة ميزات تخالف غيرها في جانب أو أكثر. لكننا لا نستطيع أخذ صفات أمة بعينها معياراً لتحديد قيمة الآخرين على سلم عمودي.

- ما هي أهمية هذا الكلام؟

لقد وجدت الأكثرية الساحقة من الناس، عرباً وغير عرب، يتقبلون الفكرة السابقة، وينفون بشدة أنهم أقل ذكاءً من غيرهم، أو أن أمتهم أقل معرفةً من سائر الأمم. ويصرّون على أن تفوق إحدى الأمم في وقت بعينه، ناتج من ظروف وإمكانات لم تتوفر لغيرها. ولو توفرت لحصل هنا ما حصل هناك بلا فرق.

الأمر المثير للدهشة، أن هؤلاء أنفسهم، أو كثيراً منهم، يتقبلون فكرة أن الله فضّل جنساً على جنس، أو أن قبيلة أرفع نسباً من غيرها. وأقرأ بين حين وآخر تعليقات لأشخاص متعلمين، يتحدّون غيرهم أن يذكروا نسبهم، ونعلم أن المقصود بهذا هو الإشارة إلى أن أصولهم غير عربية أو غير قبلية. ولعل بعضنا يذكر قضايا «عدم التكافؤ في النسب» التي أدت في سنوات ماضية إلى هدم أسر والتفريق بين أزواج، بعدما اكتشف أقارب الزوجة أن قبيلة الزوج أدنى كعباً من قبيلتهم.

على المستوى النظري، نتباهى بأنَّ الإسلام ساوى بين الناس، وعاب التفاخر بالأنساب والانتماءات القومية والعرقية. لكننا في الوقت نفسه نتقبل فكرة أننا كأمة أفضل من سائر الأمم، أو أن جنس الرجال أفضل من جنس النساء، أو أننا نجيز هدم العائلات إذا ظهر أن الزوج ينتمي إلى عرق أو قبيلة أدنى من زوجته. فهل هذه وتلك من نوع السقطات العفوية، أم أننا نفكر بعقلين متوازيين: عقل واعٍ يزن الأمور، وآخر انفعالي يقوم مرة ويتخبط أخرى؟

هذا تأمل في قصة العقول واختلافها، وددت مشاركة القراء الأعزاء فيه، ولعله يثير في أنفسهم حاجة إلى التفكير في بعض الجوانب التي ربما نرتاح لتناسيها.