هي لا تحبُّكَ أَنتَ...
يعجبُها مجازُكَ...
أَنتَ شاعرُها...
هذا كُلُّ ما في الأَمرِ...
مطلع قصيدة لمحمود درويش يفيض بألم الشاعر المحب الذي لم يستوعب أنَّ من أحبَّ شخصها اكتفت بالإعجاب بشاعريته فحسب! أزمة يعيشها الكثير من المبدعين عندما تخطف قلبه إحداهن، تماماً كما تشعر الفاتنة عندما «يعجب» أحدهم بجمالها فتظنه أحبها، بينما هو مأخوذ بحسن وجهها أو تقاطيع جسدها. إنها أزمة الخلط بين المشاعر الإيجابية في ذهنية الإنسان خالي القلب متعبِ الروح والذي لا يستطيع استيعاب أن «هذا كلُّ ما في الأمر!».
وبين «الذات» و«الدور» تدور معارك نفسية بطلها التوهّم القائم على خلط المفاهيم على غرار الحب والإعجاب ليصل المرء إلى خيبة الأمل التي يتحمل وحده مسؤوليتها؛ إذ إنه بنى في مخيلته قصة راح يفصّل في سرديتها جاعلاً من نفسه محور الأحداث دون أن يفكر قليلاً في بقية أبطال القصة المتوهمة.
إن مفهوم الدور الاجتماعي (social role) يضع حدوداً للتوقعات عند التعامل مع الآخرين وفق النطاق المسموح به من خلال معرفة موقع الشخص في العلاقة. بمعنى، أن «المدير» صفةٌ لدور يمارَس في حدود المؤسسة التي يقع ذلك الفرد على رأسها، ويجب عليه ألا يتوقع معاملة «المدير» عندما يكون في مكان آخر، سواء الأسرة، الأصدقاء، أو حتى مؤسسة أخرى. والأمر نفسه ينسحب على بقية الأدوار الاجتماعية المسندة لنا في حياتنا اليومية.
من الطبيعي أن تكون بعض الأدوار واضحة لنا ونتقبلها دون عناء، لكن لكلٍ منا دور (أو أدوار) لا نستطيع تخيل أنفسنا خارجه، فقد نسحب «الصفة» على «الذات» حتى لا نستطيع تخيل أنفسنا خارجها. فمن شخص لا يقبل أن يُنادى بغير لقبه المفضل (دكتور، أستاذ، شيخ، .....)، إلى شخص يرى أنه يجب أن يُعامل بناءً على تلك الألقاب أينما حل. وبين هذا وذاك يكون الشعور بالاستحقاق سبباً لخلاف قد يؤدي إلى غفلة الفرد عن حقيقة أنه شخص لديه أدوار أخرى غير تلك التي استحسنها وحبس نفسه داخلها؛ فالآخرون يهتمون بالدور الذي يتعلق بهم، وإن كنتَ تنظر له على أنه هامشي، بل لا يليق بك.
نستذكر هنا قصة شائعة في وسائل التواصل الاجتماعي - لا أعلم مدى صحتها - بطلها العالم التركي عزيز سنجار الحائز جائزة نوبل في الكيمياء عام 2015. ملخص القصة حوار بين سنجار وزوجته التي قالت له:
- أخرج القمامة يا عزيز.
- أنا فائز بجائزة نوبل.
- أخرج القمامة يا عزيز، أيها الحائز جائزة نوبل.
إنَّ موقف السيدة سنجار هو نفسه موقفنا نحن عندما نتعامل مع بعضنا؛ إذ نرى في الشخص الذي نتعامل معه ما يهمنا (سواء بصفته الشخصية أو الاعتبارية) دون اعتبار لبقية أدواره التي يمارسها مع غيرنا.
يجد الكثيرون صعوبة في تقبّل هذه الحقيقة، تماماً كما لا يستوعب الطفل في المرحلة الابتدائية أن «أصدقاءه» في الصف الأول قد انتقلوا لفصول أخرى في الصف الثاني، وأن عليه أن يبني علاقاتٍ جديدة مع أطفال آخرين. فالطفل في تلك المرحلة لا يفرق بين «زميل» الفصل و«الصديق». وهذا ما يُدخل الطفل في أزمات تكون بمثابة المُضاد الحيوي الذي يعينه على تقبّل فكرة عدم التعلق بالآخرين بناءً على توهم نوع العلاقة، والذي غالباً ما يكون من طرف واحد.
الحديث يطول في مسألة الألم الذي يسببه عدم النضج العاطفي والاجتماعي؛ مما يجعل الإنسان ينتظر من لا يأتي، تماماً كما قال درويش:
«لم تأتِ. قُلْتُ: ولنْ...
إذاً، سأعيد ترتيب المساء بما يليق بخيبتي وغيابها».
خلاصة القول، أنَّ النضج يحتم على الإنسان الموازنة بين أدواره الحياتية بشكل لا يطغى فيه أحدها على الآخر، ففي نهاية المطاف سيترك الإنسان ذكرى في كل مكان أتقن فيه دوره، وسيستذكره أولئك الذين حفظوا له الود والعرفان على ما قدّم. ولنكن أكثر واقعية، فإنَّ غالبية الناس سينسونك لأنَّ أذهانهم مليئة بالأشخاص الذين يملؤون عقولهم وقلوبهم. وعليه، سينطبق علينا جميعاً قول درويش «تًنسى كأنك لم تكن».