قد يبدو خبراً عادياً، أو لا يستحق الاهتمام الكافي مقارنة بالأخبار الأكثر تأثيراً ومتابعة من الجمهور العادي وعموم المهتمين، ومع ذلك فهو يقول الكثير. خبر إغلاق قناة «الحرة» الأميركية الموجهة للشرق الأوسط، الذي بدأ تنفيذه قبل ثلاثة أيام، تطبيقاً للسياسة الكلية التي يلتزم بها الرئيس الأميركي دونالد ترمب بخفض الميزانية الفيدرالية، وإغلاق الوكالات والأنشطة الممولة فيدرالياً، والتي يراها غير ذات فائدة، ولم يعد لها دور يذكر يستحق الإبقاء عليها، الأمر الذي سبق تطبيقه مع الوكالة الأميركية للمعونة الدولية، التي كانت تمول الكثير من الأنشطة في معظم دول العالم، سواء الثقافية أو السلوكية أو المتعلقة بتغيير التوجهات في المجتمعات المستهدفة لا سيما في أفريقيا جنوب الصحراء والعديد من دول آسيا المحدودة الموارد. كما تم إقراره أيضاً بوقف التمويلات الفيدرالية للعديد من الجامعات الكبرى التي كانت تستقطب بدورها آلاف الطلاب من بلدان العالم المختلفة، ليس فقط من أجل مدهم بالتعليم المتطور، بل بجذبهم إلى نمط الحياة الأميركية ككل، من خلال التعايش والاحتكاك بالمجتمع الأميركي بكل تفاصيله، ما يولد نوعاً من الجاذبية الفكرية والسياسية يُستفاد منه على المدى البعيد.
العلاقة بين هذه التطورات؛ إغلاق «الحرة» والوكالة الأميركية ووقف تمويل الجامعات، ذات صلة وثيقة بالمفهوم الشائع حول القوة الناعمة، والذي يناقض مفهوم القوة الصلبة، الأول يعنى بكل ما هو فكري وسلوكي وثقافي ومجتمعي وتقاليد وقيم والآليات التي تستهدف جذب آخرين لأنماط فكرية وسلوكية معينة، بالإقناع المتدرج من خلال طرح النماذج والصور والمنتجات الفنية والإبداعية التي تعبر عن قوة معينة، يُراد من خلالها نشر النموذج الذاتي الأميركي على أوسع نطاق ممكن، ما يتولد عنه مزيد من النفوذ والتأثير السياسي العالمي بأثمان قليلة ومن دون مقاومة من هؤلاء الآخرين.
القوة الصلبة معروفة عبر التاريخ، فهي القدرات العسكرية والاقتصادية، يُضاف إليها القدرات الإنتاجية ذات التقنيات العالية والتي لا يتوقف تطورها كل ساعة تقريباً، بخاصة لدى الدول الأكثر تقدماً تكنولوجياً. وهي القوة التي تتيح لصاحبها أن يفرض نفوذه وهيمنته عبر الحرب أو التهديد بها أو الردع. وحين يتم المزج بين هذين النوعين من القوة، نصبح أمام نموذج يوصف بأنه القوة الذكية، إذ يوظف كل نوع في مجاله حسب الحاجة والهدف المبتغى، وبأسلوب يتصف بالذكاء والمرونة وإظهار كل نوع بحكمة حسب الحالة، من دون التخلي عن النوع الآخر تماماً، وهو ما يظهر دائماً في حالات التفاوض مع آخرين.
النموذج الأميركي قدم تطبيقاً لهذه الأنماط، مستفيداً مما لديه من آليات وقدرات تتيح له ممارسة النفوذ عالمياً. السياحة ومغرياتها والجاذبة لكل الجنسيات تقريباً، كبريات المؤسسات الإعلامية والمجلات والدوريات العلمية في مختلف المجالات، مراكز البحوث بما لها وما عليها من موضوعية ومصداقية منهجية، صناعة الأفلام والدراما والبرمجيات، والتطبيقات التي لم يعد يمكن لأي مجتمع الاستغناء عنها، أفراداً وشركات ومؤسسات رسمية وغيرها، لعبت أدوراً هائلة في تسويق النموذج الأميركي، الجامعات الأميركية كبيرها ومتوسطها أثرت في أعداد هائلة من الطلاب الأجانب. وكالة المعونة الأميركية تغلغلت في الكثير من الدول، ومولت العديد من الأنشطة المجتمعية والتنموية.
النموذج الأميركي بهذا التطبيق «الذكي» يواجه الآن انفراطاً في المفهوم، وتراجعاً في آليات التطبيق. حين تتوقف الجامعات الأميركية عن استقطاب الأجيال الجديدة من دول مختلفة، يتعرض النموذج التعليمي الأميركي ككل لهزة لدى الخارج، والذي سيبحث حتماً عن فرص أخرى في دول لا تضع القيود، ولا تنظر للطلاب الأجانب باعتبارهم أعداء أو يكرهون الرئيس، أو لا يستحقون الحصول على فرصة للتعلم. الخاسر هنا هو الداخل الأميركي ذاته، وليس الباحثين عن فرصة للتعلم. وقس على ذلك الكثير من التداعيات السلبية التي تتولد عن تقييد آليات القوة الناعمة الأميركية.
النموذج الأميركي طالما روج للحرية والديمقراطية والشفافية في المحاسبة والإدارة ذات الأهداف المحددة، وعدم تسييس عمل الشركات وخضوعها لسيد البيت الأبيض، وكلها مفاهيم باتت محل مراجعة سواء من الأميركيين أنفسهم أو من الخارج. في المقال الذي نشرته صحيفة «الواشنطن بوست» بعنوان «الاقتصاد الأميركي معروض للبيع»، الجمعة 11 أبريل (نيسان) الجاري، للكاتب فريد زكريا، ذي الأصول الهندية، وإن تحدث عن التأثير السلبي لقرارات الرئيس ترمب بفرض رسوم جمركية على العالم كله، ثم التراجع عنها بعد أيام عدة مع استثناء الصين، وهي القضية التي تعد الآن الشغل الشاغل للعالم ككل، يشير إلى بعد مهم انطلاقاً من خلفيته الهندية ومقارنتها بما كان في الولايات المتحدة ولم يعد كذلك في الوقت الراهن، فالهند مثقلة بالقيود على التجارة من رسوم جمركية عالية وحواجز جمركية مصممة لحماية الصناعة المحلية مما أفسد القدرة على التنافس، ما أدى حسب زكريا، إلى المزيد من الفقر والركود، وتسييس الاقتصاد بشكل مفرط، وعدم قدرة أي شركة على العمل إلا بعلاقة جيدة مع الحكومة. لم يكن الوضع هكذا في الولايات حين وصلها زكريا، فالشركات تمارس عملها بغض النظر عن سيد البيت الأبيض، لكن الأمر تغير تماماً مع الإدارة الحالية، فرؤساء الشركات الكبرى والمتوسطة يجرون المقابلات ونشر الإعلانات التي تشيد بعبقرية القرارات المتخذة، ويسعون للحصول على الاستثناءات، ثم ينهي المقال بعبارة في «أي بلد أعيش؟».
ما قاله زكريا قاله كثيرون من الإعلاميين ورجال الأعمال والمفكرين والأكاديميين. كثيرون يجمعون على أن نموذج القوة الذكية الأميركي يتعرض لهزة كبرى، تداعياتها خطيرة على الداخل كما هي على العالم. المنافسون يحصلون على أرصدة مجانية من الفرص، للترويج لنماذجهم الأقل قيوداً والأكثر ثباتاً.