وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

النمو الاقتصادي والسعادة في البيت

استمع إلى المقالة

هناك من يؤمن بأن الشركة بمفهومها الحديث هي الوحدة الأساسية التي يبنى عليها الاقتصاد؛ لأنها ما يضم مجموعة من الأشخاص ذوي الأفكار الإبداعية لتنتج عنهم منتجات، ويوظف هؤلاء غيرهم لإنتاجها بشكل مستمر، وهناك من يقول إن الإنسان هو من يصنع الاقتصاد بأفكاره الإبداعية وليست الشركة.

كلتا الفكرتين سليمة، ولكن إذا آمنا بأن الإنسان هو الوحدة الأساسية التي يبنى عليها الاقتصاد وليس الشركات، فعندها يجب أن نفهم كيف يمكن أن نحفز هذا الإنسان ليبدع وينتج ويعمل.

لنعد إلى الأساسيات؛ فأساس كل نجاح عملي هو الشغف والسعادة، وهذا الإنسان المنتج هو السعيد في حياته وعمله. هذا الأمر متطلب أساسي، ولكن ليس كل البشر المبدعين كانوا سعداء؛ بل عانى بعضهم من الحاجة والفقر، وكانت المعاناة مصدر إبداعهم.

قد يكون هذا صحيحاً، ولكنْ قليل هم المبدعون والمنتجون في أعمالهم الذين تحدوا الظروف وكانت الحاجة دافعهم.

والحقيقة أن غالبية المنتجين والمبدعين يحتاجون لبيئة خصبة، ولهذا نرى أن «وادي السيليكون» في أميركا مليء بالشركات الإبداعية، ليس بسبب الأشخاص؛ بل بسبب البيئة والنظام الإيكولوجي الذي تدعمه هذه البيئة من تعليم وصحة ورفاهية وتمويل ومصارف.

نتحدث كثيراً عن البيئة المحفزة للإنتاج والإبداع، وننسى أحياناً أن الأسرة والعلاقات الزوجية في قلب هذه المنظومة.

الأسرة هي الحاضنة الأولى للإبداع، والزواج السليم هو المحفز الأساسي له، وكثير من المبدعين والمبدعات كانت لديهم أسر وأزواج داعمون.

لكن في المجتمعات الشرقية لا يزال مفهوم العمل بدائياً، والوظيفة ليست حافزاً للإنتاج والإبداع، بل مهرب من حياة صعبة، وملجأ من ظروف قاسية.

نشاهد هذا في النساء أكثر من الرجال؛ حيث تكون الوظيفة ملاذاً من الرجل والزوج ووسيلة لحمايتها وأبنائها منه، ووسيلة أمان عندما لا يصبح هناك أمان. وعندما نحاول فهم التشريعات الإسلامية نرى أن الإسلام جعل الإنفاق واجباً على الزوج حتى بعد الطلاق؛ لأن المرأة تحتاج للأمان.

اليوم علاقتنا تفتقد الأمان العاطفي والاجتماعي؛ فالمرأة تعمل كي تستقل عن الرجل، وتهرب منه إلى وظيفتها وقت الأزمات، ولهذا نرى النساء يعملن باستماتة شديدة، وهنا يبرزن وظيفياً، ويتقدمن على حساب حياة البيت التي قد تمضي في تراجع مستمر.

هنا لا أعرف كيف نرى السعادة عندما يصبح العمل بديلاً للزوج، والبيت ثاني أو ثالث الأولويات، وتصبح البيوت موضع صراعات بين رجال يبحثون عن حياة في بيوتهم ونساء يبحثن عن أمان خارجها... ولكن لا أستطيع لوم الكثيرات منهن؛ لأن نسبة كبيرة من الرجال ليسوا مصدر أمان عاطفي لهن.

وما ينطبق على المرأة ينطبق على الرجل؛ إذ يعمل الرجل بلا كلل لتوفير لقمة العيش للأسرة، ومرات يكون الأمر طمعاً بلا مبرر، وهنا تفقد العلاقة والأسرة التوازن الطبيعي وتصبح هناك بيوت بلا حياة، فقط أشكال اجتماعية.

هذه الظروف لا تخلق مبدعين، بل تخلق أفراداً يعملون ساعات طويلة بلا إنتاجية ولا إضافة حقيقية.

والحل هنا إما أن تتحول المجتمعات الشرقية إلى غربية فردياً، ونعيش كأفراد لا كأسر، ويتكرر ما جرى في الغرب من نمو عدد الأسر بعائل واحد سواء كان رجلاً أو امرأة. وهذا تغيير يتطلب التخلي عن أعراف دينية واجتماعية سائدة... أو أننا نرجع للأصل، وهو تأسيس حياة مبنية على الأمان العاطفي والمادي للطرفين ويحدُث فيها التوازن. عمل المرأة مهم كما هو عمل الرجل، ولكن عندما يفقد أحدهما التوازن تقل السعادة في البيت؛ لأن الآخر إما غير موجود بالكامل، أو موجود شكلاً لا مضموناً.

الإبداع قد يأتي من المعاناة أو من السعادة، ولكن الإنتاجية لا تأتي إلا بالسعادة... ولهذا فالشركات العالمية التي تتحكم في الاقتصاد العالمي سخية في إسعاد العاملين.

والسعادة يجب ألا تتوقف عند حدود الشركة، بل تنبع من البيت. والبيت هو من سيخرج المبدعين، وينشئ اقتصادات متينة مليئة بالمنتجين... وليست الشركات فقط من تنشئ هذا.