مها محمد الشريف
كاتبة سعودية مختصة بقضايا الشرق الأوسط والعالم، كتبت في العديد من الصحف الرسمية السعودية وصحيفة «الرؤية» الإماراتية، وتكتب بشكل دائم في صحيفتَي «الجزيرة» و«الشرق الأوسط». لها اهتمامات بالرسم والتصميم الاحترافي.
TT

سنوات الفوضى أرهقت الشعب

استمع إلى المقالة

إن كوارث القذافي بانعدام التنمية في ليبيا ما زالت قائمة، والأجواء السياسية في تلك الحقبة أنذرت بهبوب رياح الفوضى لسنوات استمرت من بعده، راحت ثروات البلد هدراً وأموالها صُرفت بمنتهى السوء والفوضى؛ لأنه لم يصنع دولة مؤسسات، لذلك انقسمت البلاد، ودام النزاع على السلطة، وتوقفت كل سبل التنمية في ظل استمرار الانقسامات بين أطراف قوية مدعومة من قوى خارجية، فمن يتحمل المسؤولية؟ ومن يكفكف دموع أهالي الضحايا ويعيد الأمان المفقود لهم؟ فحال الرأي السياسي المضطرب يُقاس حسب الأهواء المتناحرة.

ليبيا تعيش أزمة سياسية خانقة تمثلت في صراع بين حكومتين على السلطة؛ الأولى في المنطقة الشرقية، والثانية حكومة الوحدة الوطنية المنتهية الولاية برئاسة عبد الحميد الدبيبة الذي يرفض تسليم السلطة، وهذا الصراع استنزف ثروات البلاد.

ليس المهم أن تصبح حانقاً على ما حدث، بل الأهم أن تظل دوماً مطالباً بما يكفل لك الأمن والسلامة في ظل هذا الانقسام، فكل ما حول هذه الأحداث يرتعد بعدما تحطم كل شيء، بدمار واسع في المدينة التي تغيرت معالمها واختفت أحياء كاملة جراء السيول الجارفة التي جرفت مناطق بأكملها، في مدينة يقدر عدد سكانها بنحو 120 ألف نسمة على الأقل، وقال رئيس البلدية إن 20 ألف شخص ربما يكونون قد لقوا حتفهم جراء هذه الكارثة.

تقدير مأساوي حمل جملة تدابير اتخذت من أجل جعل الصورة قيد الإدراك، مع حجب ملامحها الحزينة، فهذه المدينة الساحلية الجميلة بتضاريسها المميزة وطبيعتها الآسرة وموقعها على ضفاف البحر المتوسط، جرفتها الفيضانات وراح ضحيتها ربع سكانها ومساكنها، وعلى إثر هذه المصيبة اجتمعت القلوب الليبية رغم انقسامها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

علماً بأن الفيضانات لحقت بدرنة منذ سنوات طويلة أربع مرات خلال 80 سنة مضت، ومع ذلك السدود قديمة وضعيفة البنية وبلا صيانة، لذلك انهارت، بعدما أعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة أنه «كان من الممكن تفادي سقوط معظم الضحايا» جراء الفيضانات المدمرة التي خلفت آلاف القتلى وآلاف المفقودين في شرق ليبيا، وأن قلة التنظيم في ظل الفوضى المخيمة على هذا البلد، أزهقت أرواحاً بريئة وخلّفت دماراً كبيراً للممتلكات. والسيول الناجمة عن العاصفة «دانيال» غطت مساحات شاسعة من المدينة المطلة على البحر المتوسط، واجتاحت مجرى نهر جاف، مما أدى إلى انهيار سدود ومبانٍ متعددة، وتسبب في كارثة ومشهد مرعب من الدمار.

على الرغم من دراسات وأبحاث نُشرت لأساتذة وباحثين في تاريخ سابق من كلية الهندسة، في جامعة المختار، بأن تقدير عمق الجريان السطحي نتيجة تساقط الأمطار يعرض شرق البلاد لمخاطر الفيضانات، واعتبر الجريان السطحي نتيجة تساقط الأمطار من المكونات الهيدرولوجية المهمة في تقييم الموارد المائية والتربة، وتم تجاهل هذه الدراسة التي لو أخذ بها لكانت الخسائر أقل وكانت قيد السيطرة.

أعلم أنه لا يمكن وصف المشهد إلا بشكل تقريبي، وأنه من الصعب أن يجد المرء العبارات المناسبة، لا سيما إذا تعلق الأمر بمصيبة عظمى خلّفت المياه الجارفة وراءها مشهداً درامياً يبدو كما لو أن زلزالاً قوياً ضرب مساحة واسعة من المدينة، فهناك، الفقد كبير والبيوت ركام يملأها الذعر والخوف، وكل شيء صامت خلفه عنف خفي.

علاوة على هذا، سكان المدينة وفرق الإغاثة يواجهون صعوبة كبيرة في التعامل مع آلاف الجثث التي أعادتها الأمواج لليابسة أو تحللت تحت الأنقاض، بعدما دمرت الفيضانات المباني، وألقت بالكثيرين في البحر، وعلى خلفية هذه الأحداث دعت منظمة الصحة العالمية ومنظمات إغاثة أخرى السلطات إلى التوقف عن دفن ضحايا الفيضانات في مقابر جماعية، قائلة: «إن هذا قد يتسبب في صدمات نفسية طويلة الأمد للعائلات أو قد يحدث مخاطر صحية إذا كانت الجثث مدفونة بالقرب من المياه»، تفاصيل مؤلمة تضرب جذورها في خاصرة الآمال وأحلام وتطلعات البسطاء من المواطنين الليبيين.