«لو كنت أعلم أن نجاحي سيكون على حساب تدمير الكوكب لاخترت عملاً آخر»، قال مؤسس إحدى أكبر شركات السفر والرحلات السياحية الرخيصة في أوروبا. سمعته يتحدث بحسرة خلال حرائق الجُزُر اليونانية، التي تبعتها فيضانات سلوفينيا، حيث احتُجِز عشرات الآلاف من زبائنه، وهو منشغل بوضع خطط طوارئ لإجلائهم. وأكّد أنه، حين أطلق شركته قبل 25 عاماً، لم يكن يتصوّر حجم مساهمة السياحة الجماعية في التلويث وتخريب الموائل الطبيعية وتغيُّر المناخ. لكن بعد اكتشافه هذه الآثار المدمّرة اليوم، فهو لن يتوقف عن توسيع أعماله في السياحة الجماهيرية الرخيصة، لأنه إذا خرج من السوق سيأخذ مكانه مستثمر آخر، ولن يتوقف التدمير. وقد حاول صياغة عباراته المنتقاة بحذق رجل الأعمال، متعهداً تخصيص جزء من أرباح شركته لإصلاح التخريب الذي تتسبب به أعمالها. لكن ربما يكون قد فات الأوان إذ ذاك.
وإذا كانت الحرائق التي ضربت مواقع سياحية شهيرة في دول حوض المتوسط استقطبت اهتمام وسائل الإعلام، لأنها أصابت مئات الآلاف من البشر وحوّلت بيوتاً وغابات شاسعة إلى رماد، فهي لم تكن الكارثة البيئية الوحيدة هذا الموسم. فقد ضرب الارتفاع القياسي في حرارة مياه البحر الشعاب المرجانية من فلوريدا إلى شرم الشيخ، التي أصابها الابيضاض وبدأت في الاضمحلال. وعدا أهميتها في اجتذاب السيّاح لجمال تشكيلاتها الملوّنة، تلعب الشعاب المرجانية دوراً بالغ الأهمية في توفير الغذاء لمجموعة كبيرة من الكائنات البحرية والحفاظ على التنوُّع البيولوجي والتوازن الأحيائي. وفي حين تحتمل الشعاب المرجانية درجات حرارة مرتفعة، لأنها تعيش في المياه الدافئة، إلّا أن ارتفاع الحرارة لفترات طويلة فوق المعدّلات العادية يؤدي إلى ابيضاضها وموتها. وآخر مطاف الكوارث البيئية - السياحية هذا الموسم كانت حرائق هاواي، التي ضربت مدينة ماوي، أحد المقاصد المفضلة للسياح الأجانب.
هناك إجماع علمي على أن التغيُّر المناخي هو السبب الرئيسي لتزايد الظواهر الطبيعية المتطرّفة، في حجمها وعددها ووتيرة حدوثها. ويتمثّل هذا في درجات الحرارة المرتفعة إلى حدود غير مسبوقة والممتدة لفترات طويلة، كما في الأمطار الغزيرة التي تتحدى المواعيد والمواقع المعتادة، والعواصف والأعاصير والفيضانات الحادّة المتكررة. والسفر الجماعي عبر القارات، مع ما يصاحبه من تدمير للموائل الطبيعية، مصدر رئيسي للانبعاثات الكربونية التي تسبب الاحتباس الحراري.
إذا كان النسيان من حسنات الطبيعة البشرية، إذ يساعد على تجاوز المِحَن وفتح صفحات جديدة في الحياة، إلا أنه يصبح خطِراً حين يؤدي إلى إهمال الاستفادة من التجارب لعدم تكرار الأخطاء. فحين ضربت جائحة كورونا ضربتها، محتجزةً الناس في بيوتهم وبلدانهم ومعرقلةً السفر بين القارات، ازدهرت السياحة الداخلية. وكم من الناس اكتشفوا مواقع رائعة في محيطهم القريب لم يزوروها أو يعلموا بوجودها قبلاً، لأن حملات الترويج تركّز على الوجهات السياحية الغرائبية البعيدة. وفي حين ظنَّ المراقبون أن الاعتياد على السياحة الداخلية سيستمر بعد عبور الجائحة، فقد تبيّن أنهم أخطأوا التقدير، لأن السيّاح عادوا أفواجاً إلى الرحلات الخارجية خلال السنة الأخيرة، مثل ماردٍ خرج من القمقم. وما إن همدت الحرائق في الجُزُر اليونانية، مترافقة مع أمطار غزيرة في شمال أوروبا أعقبت موجات الحرّ، حتى عاد السيّاح إليها بالآلاف، هاربين من أمطار الشمال، وكأن شيئاً لم يكن.
استكشاف مناطق بعيدة من العالم كان في الماضي مقتصراً على فئة محصورة من المغامرين، نسميهم «رحّالة» و«مستكشفين». بعض هؤلاء شاركوا الآخرين تجاربهم بالكتابة عن خصائص الطبيعة والعمارة وأساليب الحياة والثقافة وعادات الشعوب وتقاليدها، فساهموا في نشر المعرفة والتواصل بين الحضارات. لكن معظم الرحلات السياحية حول العالم اليوم تحوّلت إلى الاستجمام، وكثيراً ما ينتقل السائح من الاسترخاء على شاطئ في بلده إلى التمدّد على شاطئ في بلد آخر. وكم من الرحلات السياحية تفتقر إلى أي عنصر ثقافي أو تراثي أو تاريخي، كأن يذهب السائح إلى باريس فيكتفي بزيارة الملاهي والتبضُّع والجلوس في المقاهي والمطاعم، من دون أن تطأ قدماه أي متحف أو حفل موسيقي أو معرض فني أو حتى حديقة عامة. وقد قابلتُ أخيراً سائحاً في مدينة سالزبورغ النمساوية، فسألني عن عنوان مطعم يقدّم المأكولات العربية، واكتشفت من حديثي معه أنه لا يعرف أن المدينة كانت تستضيف خلال فترة وجوده أحد أهم المهرجانات الموسيقية في العالم، وأنها مسقط رأس الموسيقي العظيم موزار وتضم متاحف ومواقع أثرية مهمة. وكأن جلّ مبتغاه من قطع آلاف الكيلومترات والتسبب بأطنان من الانبعاثات لزيارة هذه المدينة ذات التاريخ العريق، هو تناول وجبة من اللحم والأرزّ.
في زمن التحديات البيئية والمناخية الكبرى، يحتاج التوسُّع المتفلّت في السياحة الجماعية الاستجمامية إلى ضوابط. فالاستمرار على الوتيرة الحالية يهدّد المقوّمات الأساسية التي تقوم عليها السياحة، من طقس ملائم وشواطئ نظيفة وغابات خضراء ومعالِم طبيعية جذّابة، عدا عن تهديده للبيئة. هذا لا يعني منع السياحة الاستجمامية بل تنظيمها، ما يستدعي وضع قيود مثل فرض رسوم على الرحلات، تُخصَّص لتدابير حماية البيئة وإصلاح التخريب في النظم الطبيعية ومنع التلوُّث ومعالجة الهدر في المياه والموارد عامة. كذلك يستدعي تحديد عدد السياح وإبقاء بعض المناطق الحساسة مغلقة. كما يجب دمج الاعتبارات الثقافية والتراثية في برامج الرحلات السياحية، فلا يقتصر الاهتمام على الشواطئ وأماكن الترفيه داخل المدن.
المطلوب أيضاً تشجيع السياحة الداخلية ضمن البلدان نفسها، بخلق عوامل جذب لأبناء البلد والمنطقة المحيطة، ضمن شروط تحفظ التوازن البيئي. هذا لا يساعد فقط في تخفيف الانبعاثات وتخفيف الضغط على البيئة العالمية، بل أيضاً في دعم الاقتصاد والبيئة محلّياً. فالسفر إلى مناطق قريبة يخفّف الانبعاثات ويحدّ من هدر الثروة الوطنية في الخارج. وقد يكون الأهم أن اكتشاف المواطنين لجمال المواقع الطبيعية في بلدانهم يدفعهم إلى حمايتها والحفاظ عليها. وأذكر أنه حين نشرتُ «كتاب الطبيعة» عام 2002، وفصوله رحلات مصوَّرة في غابات وصحارى وبحار مجهولة في البلدان العربية، فوجئت أن معظم السكان المحليين لم يسمعوا بهذه المواقع الرائعة من قبل. لذا علينا ألَّا نتفاجَأ بالإهمال وعدم المبالاة بالتخريب، لأن الناس أعداء ما يجهلون.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»