توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

قصة «كائناً من كان»

معظم الأخبار تثير التشاؤم. لكن أصدقاء كثيرين أخبروني أنهم سهروا طيلة ليل الأحد الماضي «لأن الأخبار السارة تحلو طازجة». مساء الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) لم يكن اعتيادياً في السعودية. القرارات الملكية الخاصة بمكافحة الفساد، أطاحت بالسد العالي الذي ظننا أن بلوغه مستحيل. دعنا نعود قليلاً إلى الوراء، إلى العام 2011 حين أعلن المرحوم الملك عبد الله عن تأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد «نزاهة». يومها قال الملك إن الهيئة ستراجع شبهات الفساد في كل القطاعات الحكومية، ولن تستثني من ذلك أحداً «كائناً من كان».
يعرف السعوديون «كائناً من كان»، ويعرفون أن الإمساك به ليس سهلاً كالحديث عنه. لكن السعوديين متفائلون بطبعهم، ولذا ظنوا أن الأمر لم يعد في عداد المستحيلات.
في العام 2013 رافقت عدداً من رجالات البلد إلى اجتماع برئيس «نزاهة» الأستاذ محمد الشريف، غرضه البحث في دعم المجتمع لجهود الهيئة. وجدت الشريف متفائلاً ومشجعاً، وطرح العديد من الأفكار القيمة. لكن رفاقي شعروا في نهاية الاجتماع أن «كائناً من كان» لا يزال بعيد المنال. وتساءلنا: هل يمكن تنظيف السلم من أسفله؟
مرّت الأيام، وبدأنا نرى ما يشير إلى أن «كائناً من كان» لم يعد محمياً بشكل مطلق. لكن الإشارات تبقى إشارات، تخبرك عن اتجاه الطريق ولا تذهب إليه. ليلة الرابع من نوفمبر علمنا أن «كائناً من كان» بات خبراً. تذكرت وقتها قصة الإسكندر المقدوني، الذي طلب من مساعديه تفكيك العقد الكثيرة في حمائل سيفه. فقضوا ساعات يحاولون من دون نتيجة. عندها أخذ الإسكندر خنجراً وضرب العقدة، فشقها وأنهى المهمة التي أعجزت الآخرين.
لم تكن المهمة إذن مستحيلة كما ظننا. لكنها - على أي حال - احتاجت إلى مبادرة من فوق. وهذا ما حصل في تلك الليلة التي لن تنسى.
حسنا... لقد بدأنا في المسار الصحيح، أي تنظيف السلم من فوق. لكن الفساد ليس حالة ساكنة ولا حدثاً معزولاً. نعرف من الأبحاث ومن التجربة الفعلية في بلادنا وغيرها، أن الفساد لا ينتهي بقرار، وأن الفاسدين لن يموتوا فجأة. ولهذا فالقوانين والإجراءات والمؤسسات التي تستهدف الفساد لا تدعي أنها ستنهيه تماماً، بل تركز على تضييق سبله وجعله مكلفاً جداً لأصحابه، كما تسعى لإشراك المجتمع في الحرب عليه.
المنظور الحديث لمكافحة الفساد جزء من مفهوم «الحكم الرشيد» الذي يهتم بالإجراءات المعيقة للفساد، وليس الوعظ والتوجيه. وتندرج هذه الإجراءات تحت العناوين التالية:
1 - الحاكمية المطلقة للقانون، حيث لا يمكن لموظف رسمي أن يفعل شيئاً دون الاستناد لقانون معلن. وحيث يتساوى الناس جميعاً في الخضوع لنفس القانون. إضافة إلى الحماية القانونية للموظفين والأشخاص الذين يأبون المشاركة فيما يظنونه فساداً، أو يكشفون عن شبهات الفساد.
2 - الشفافية، حيث يجب السماح دائماً بالاطلاع على البيانات الخاصة بالتعاملات الرسمية لفحص احتمالات الفساد.
3 - اعتبار الفساد جريمة شخصية ومحاسبة كل موظف للتستر أو الإهمال المؤدي للفساد.
4 - مشاركة المجتمع ولا سيما الصحافة في مراجعة التعاملات التي تجريها الهيئات الرسمية، وحمايتها من المساءلة أو الإيذاء أو التمييز السلبي حين تكشف عن شبهات الفساد.
زبدة القول: إننا نسير الآن في الطريق الصحيح. لكن مكافحة الفساد ليست مهمة مقطوعة، بل عمل متواصل، يتوقف إنجازه على ترسيخ القواعد القانونية والمؤسسية التي تجعل الطريق إليه ضيقاً ومكلفاً ومكشوفاً أمام الجميع.