غسان الإمام
صحافي وكاتب سوري
TT

تصدُّع الكتلة السنيّة في المشرق العربي

حجزت تركيا لنفسها مقعدًا إلى مائدة تشريح سوريا والعراق لتغييبهما. أو لرسم مستقبل لهما يحافظ على وحدة كل منهما. وأثبت رجب طيب إردوغان أنه رسام مناور. ماهر في رسم خرائط الجغرافيا السياسية، تمامًا كما فعل الرسام مصطفى كمال (أتاتورك) الذي استغنى عن الإمبراطورية العثمانية، من أجل المحافظة على تركيا كدولة. ووطن. ودور في المنطقة والعالم.
إردوغان مع التاريخ. فهو مسكون بالحنين إلى استعادة الطيف الديني للإمبراطورية العثمانية. وحماية غالبية شعوبها السنية من التصدع والتفتت، بمعاول إيران. و«داعش». والأكراد. وروسيا. والنظام العلوي السوري.
وإردوغان ضد التاريخ. فهو يغفر للكتلة السنيّة العربية ثورتها على الإمبراطورية العثمانية، وإنهاء استعمارها المتخلف للعرب الذي استغرق أربعة قرون (1516 / 1916). بل يستخدم تأييد هذه الكتلة المتعاطفة معه مجددًا، كشرعية لوجوده العسكري في العراق. وسوريا الذي يباركه أيضًا النظام العربي الخليجي.
الطائرة الروسية التي أسقطها «السلطان العثماني» إردوغان لم تمنعه من استمالة «القيصر الروسي» الذي تغاضى عن التدخل التركي في سوريا. وسمح لإردوغان بلجم أكراد سوريا المدعومين بأكراد تركيا، عن السيطرة على سوريا الشمالية. وتأسيس كردستان سوري يمزق عروبة سوريا وكتلتها السنية. ويهدد الأمن القومي التركي. ويفصل تركيا عن عرب المشرق والخليج.
في السياسة، ليس هناك زواج كاثوليكي أبدي بين الدول. يبدو «السلطان» إردوغان اليوم زوجًا سعيدًا لضرتين مشاغبتين: تردد الزوجة الأميركية في معاقبة بشار الكيماوي (2013) منح «السلطان» الفرصة لقضاء شهر عسل جديد مع الزوجة الروسية التي عززت «ممتلكاتها» السورية، باحتلال الساحل السوري. وتحويل طرطوس إلى قاعدة (نووية) للأسطول الروسي المنتشر في شرق المتوسط. وجعل مطار حميميم قاعدة دفاع جوي لصواريخ «إس 300» و«إس 400» القادرة على صيد الطائرات الأميركية، إذا ما فكرت بقصف مطارات الطيران السوري.
لا نهاية لانهزامية المثقفين في السياسة والمسؤولية. الفراغ الذي تركه المثقف أوباما في المشرق العربي، ليملأه الروس، سوف يجعل «الرئيسة» هيلاري كلينتون أكثر حذرًا وتحفظًا في التدخل العسكري في سوريا. وقد أعلنت سلفًا أنها لن ترسل قوات برية إلى المنطقة.
إيران لا تقل مهارة عن تركيا في استثمار الخلاف الروسي / الأميركي. إذا كانت تركيا تستخدم تنظيمات عربية / تركمانية لانتزاع منبج (في ريف حلب) من الأكراد، فهناك «جيش إيراني» حقيقي يخوض مباشرة معركة حلب، بقيادة ضباط «فيلق القدس» الذي تستخدمه إيران كرأس حربة في هيمنتها على المشرق العربي.
تركيا لا تشكل خطرًا ديموغرافيًا يستوطن سوريا. لكن إيران تبدو، من خلال زخم هجومها العسكري، مستعدة لتصدير كمية بشرية لا بأس بها من أصل 85 مليون شيعي إيراني وأفغاني، للإقامة في سوريا، والإمعان في تهجير وتفتيت غالبيتها العربية السنيّة.
مصر دولة كثافة سكانية كإيران. فهي تنتج مليون طفل كل عشرة شهور. لكن انشغال النظام المصري في حربه ضد «دواعش» سيناء المحكومين بالـ«ريموت كونترول» من غزة. ومعركته مع «الإخوان» في القاهرة. والدلتا، يحرمه من ممارسة نفوذه الإقليمي. ودوره القومي في حماية الكتلة السنيّة المشرقية من التصدع. بل يستطيع الرئيس عبد الفتاح السيسي، إذا أراد، التجاوب مع مسعى مصالحته مع تركيا، وللتنسيق معها لوضع حد لإمعان إيران في تفتيت سنّة المشرق.
وهكذا، لأسباب سورية. وعربية. وإقليمية، لا تستطيع تركيا تأمين حماية تامة للغالبية السنية المشرقية. ومع الأسف، لم تتوفر قيادات سياسية وطنية للانتفاضة السورية، كتلك التي توفرت في زمن الانتداب الأجنبي.
وكان تخلي القيادات السياسية الحالية عن عروبة سوريا خطأ استراتيجيًا كارثيًا: فقد سهلت للأكراد رفع الشعار الانفصالي «سوريا لا عربية. ولا كردية». ومكنت النظام الطائفي من تكبير وتعظيم حجم «داعش» و«القاعدة». فسيطرتا على المعارضات الدينية المسلحة في شمال سوريا خصوصًا.
وكان إسقاط المعارضات الدينية المسلحة للعروبة. والديمقراطية. والليبرالية من برنامجها، سببًا لخوف الطبقة الوسطى في دمشق والمدن السورية من قيام نظام طائفي بديل لنظام طائفي. وكانت محليتها البيئية والجغرافية الضيقة جدًا، حائلا دون تواصلها، ودون إحباط مخطط النظام وبطانته الشيعية الإيرانية واللبنانية، لمحاصرتها. وتجويع أهلها. وإجبارهم على مغادرة مدنهم وقراهم، بحيث أصبحت صالحة لاستيطان غرباء عن العروبة. والسنّة. والجغرافيا.
أومن بأن هناك دورًا كبيرًا للدول الخليجية في حماية الجدار السني المشرقي من الانهيار، بعد انهيار الجدار العراقي بالغزو الأميركي، وتسليمه إلى عملاء إيران. هذا الدور الخليجي يستند إلى نجاح الجيل القيادي الأول في إقامة دولة ضمنت قدرًا من التنمية والإعمار. والرفاهية للمجتمعات الخليجية. وحمايتها من الشعارات الناصرية والبعثية. ثم من فوضى الانتفاضات العربية.
بحكم التقدم بالعمر، بدأ هذا الجيل القيادي المبكر، في إشراك الجيلين الثاني والثالث، في توجيه دفة السياسة الداخلية والخارجية، وحماية المجتمعات الخليجية من العنف الديني. هذان الجيلان الجديدان مطالبان بإحكام تضامن وتنسيق أكبر بين الدول الخليجية. ومواصلة الدور الخليجي في مساندة الكتلة السنية في المشرق العربي. ومقاومة المسعى الإيراني مع دول كبرى لتمزيقها. وتذويب عروبتها.
التدخل الإيراني لتفجير النزاع الطائفي في الحديقة الخليجية الخضراء (اليمن) اقتضى تنسيقًا أكبر وأكبر بين الدول الخليجية الأربع. وكذلك أيضًا في السياسة الخليجية إزاء المشرق العربي، حيث وصل الدور التخريبي الإيراني للانسجام الاجتماعي الذروة.
من هنا، فالوضع في المشرق العربي يتطلب من القيادات الخليجية الشابة الانفتاح على أطياف سياسية واجتماعية في لبنان. وسوريا. والعراق. والأردن. وفلسطين أوسع من التنظيمات المسلحة والسياسية التي «تأسلمت» للاستئثار بكل الدعم الخليجي والتركي.
أشعر بأن هناك محاولات في الإعلام الإلكتروني ومواقع التواصل الاجتماعي الأثيري، لبعثرة الموقف الرسمي الخليجي. وتوجيه «نصائح» للقيادات الخليجية الشابة، من شأنها إضاعة وقتها ووعيها في متاهات التكتيك المتقلب غير المنسجم مع المصالح الاستراتيجية التضامنية للدول الأربع.