فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

الحركات الإسلامية و«العناوين العلمانية»!

مثّلت تصريحات الغنوشي الأخيرة، وتوضيح التصريحات، ونفي بعض ما دخلها من إضافات، حديث المهتمّين بالظاهرة الإسلامية في العالم العربي، وذلك لما يمثّله الغنوشي الشخص على النهضة الحركة، ولما تضمّنه القول من مضامين جديدة على الحركة الإخوانية منذ تأسيسها حتى اليوم. محاولة ضخّ مفردات علمانية، وتمييز السياسة عن الدعوة، والقول بإمكانية الخروج بحركة النهضة من تنظيم الإخوان المسلمين كانت صدمةً بطبيعة الحال. تم استثمار التصريح من أجل إدارة معارك أخرى، كما في دعوة حركة فتح لقادة حماس للاستفادة من تصريحات الغنوشي، وأخذ العبرة من تجربة «حزب النهضة»، بينما أخذ التصريح صداه لدى بعض الليبراليين الذين تفتّقت عبقريات بعضهم التحليلية للحديث المستهلك حول تميّز «الإسلامية التونسية» عن بقية الحركات، وذلك تبعًا لظروف تشكّلها، وهذا مفهوم ومعروف، ولكنه لا يضيف شيئًا إلى موضوع الجدل نفسه، وهو التراجع في معنويات قادة الإسلام السياسي في المنطقة.
طوال السنوات الخمس الماضية كانت الحرب بين جماعة الإخوان المسلمين وحكومات عربية على أشدّها، معركة كسر عظم انتهت بانتصار المجتمع المصري على الحركة بثورة 30 يونيو (حزيران)، وبصدور قوانين تجرّم الانضمام إلى الجماعة في دولٍ عربية وخليجية، لم يعد ثمة فرق بين تنظيم الإخوان أو «داعش» أو «القاعدة»، كلها في قائمةٍ واحدة، والجرم هو الجرم. نزعت بعض القيادات إلى «تجديد التسميات»، من خلال إجراء ما يعتبرونه «القراءات المعمّقة»، هروبًا من عمليّة «التراجعات»، وانتقدت التجربة المصرية في الحكم من قياديين كبار في المنطقة، ومن بين منتقديها زعيم حركة النهضة نفسه راشد الغنوشي. لقد أصرّ الغنوشي، في «القراءة المعمّقة»، على مرجعية الإسلام والحداثة، وضغط كثيرًا على عبارة: «نحن حزب ديمقراطي، مدني، له مرجعيّة قيم حضارية»، لغرض إثبات حالة «خصوصية الحركة التونسية» عن بقيّة الحركات القريبة والمجاورة التي فشلت في الإدارة السياسية، وبخاصة التجربة الإخوانية المصرية التي كسرت ظهر الحركة، وأدخلتها في أخطر مراحلها منذ تأسيسها.
فكرة الخروج عن حركة الإخوان ليست إلا محاولةً لتجديد التسميات، والبحث عن عناوين جديدة، وشعارات أخرى تتجاوب والظرف المحيط، ولا يمكن تصوّر حركة إسلامية أو فرع منها يؤمن بمفهوم «العلمانية» بالمعنى العام، هذا ممتنع نظريًا وواقعيًا لأن الحركات هذه تكتسب قوّتها من تميّيزها لنفسها عن غيرها من الأحزاب الأخرى، وفي حال انصاعت إلى مبادئ غيرها، فإنها تنتحر سياسيًا وآيديولوجيًا، فالإسلام السياسي جوهري في العمل السياسي لحركة النهضة، ومنذ أن تأسست في سبعينات القرن الماضي وهي تنأى بنفسها عن «الزيتونة» على سبيل المثال، آخذةً من مرجعية الحركة الأم مرجعًا فقهيًا وفكريًا وسياسيًا، فالخروج من الإخوان، أو هجر الإسلام السياسي، عناوين ذكيّة لحركةٍ إسلامية تحاول إخراج نفسها من الشّوَه الذي تسببت به التجربة المصرية على بقيّة الحركات، وللالتفاف على الوعي الشعبي العربي، ولمجتمعاتٍ يعرف أبناؤها الجريمة المترتبة على التعاطف مع مثل هذه الحركات.
يعيدنا هذا الجدل في التحليل، والاستعجال في «إعلان نهاية الإسلام السياسي»، لأطروحةٍ كتبت عام 1995 لآصف بيات حول: «قدوم المجتمع ما بعد الإسلاموي»، معلنًا اكتشافه لاتجاه صاعد داخل التيار الإسلامي، شرح هذا المصطلح بكتابٍ مشترك «ما بعد الإسلامويّة» (صدر في فبراير/ شباط 2016) يحذّر من تفسير «ما بعد الإسلاموي» على أنها مقولة «انتهاء مرحلة تاريخية، وبداية مرحلة جديدة. وبغضّ النظر عن الدلالة التحليلية لـ«ما بعد»، لا يمكننا التغاضي عن المكوّن التاريخي لتجربة ما بعد الإسلاموية، إذ إن هذا يأخذنا إلى أرض الذاتية المنزلقة، بمعنى ما: «تعمل ما بعد الإسلامويّة أساسًا كبناء نظري للإشارة إلى التغيّر والاختلاف، وجذور التغيير، ولا يعني بزوغ ما بعد الإسلاموّية بالضرورة النهاية التاريخية للإسلامويّة، فما تعنيه هي ولادة خطاب وممارسة مغايرة كيفيًا، نتيجة الخبرة الإسلامويّة». لكنه يعود إلى منزلقٍ نظري فظيع، حيث اتجه لقراءة «ما بعد الإسلامويّة» لدى حزب الله: «في أفضل الأحوال، قد يمثّل حزب الله شكلاً من ما بعد الإسلامويّة المتوجهة نحو الممارسة والفعل أكثر من البلاغة الخطابية، ونحو تحوّلٍ في السياسة تدفع به تعقيدات المجتمع اللبناني وتاريخه، في الوقت الذي تخلّى فيه الحزب عن فكرة إقامة دولةٍ إسلامية باختياره العمل داخل الدولة المتعددة الديانات والأعراق، وحاول حسن نصر الله معالجة هذه الثنائية بالتمييز بين الفكر السياسي والبرنامج السياسي»!
ثم ينبهر بجوابٍ أعطاه إياه محمد حسين فضل الله عام 2004، منكرًا أن يكون النموذج المأمول هو نموذج «ولاية الفقيه»!
مبدئيًا فضل الله لم يكن له دالّة على الحزب، على الأقل في العقدين الأخيرين من حياته، وعطفًا على تصوّر الدولة الإسلامية لديه نأخذ هذا النص له: «إننا نقول للمسيحيين في لبنان، وفي غير لبنان، ادرسوا التاريخ، فإن التاريخ الذي حمى المسيحية واليهودية في داخل الدولة الإسلامية هو دليل على أنه من الممكن للمستقبل الإسلامي أن يحميها بشكل أكبر، كما أن الإسلاميين عندما يطلقون المسألة الإسلامية للجمهورية الإسلامية في أي مكان فإنهم ينطلقون من الخط القرآني الذي يعترف بأهل الكتاب، ويدعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء ولا يلغيهم» (من كتابه في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي، ص67، من مطبوعات دار الملاك، 1998).
هذا المنزلق من آصف بيات الواضح، حول حزب الله وفضل الله، يشبه كثيرًا التحليلات التي ارتبطت بتصريحات راشد الغنوشي حول موضوع ترك جماعة الإخوان، فالقصّة في الوعي الأكاديمي بموضوع تلك الجماعات، مثل آصف بيات الذي ينكر رغبة حزب الله بإقامة دولة إسلامية، بينما هذا مثبت كتابةً وصورةً.
بهذا نتبيّن كون عموم التصريحات والمراوغات مجّرد تغييرات على العناوين، وتجديد في الشعارات لتحسين شروط الحضور في المجال العام، ولغرض تجاوز المحظور الاجتماعي والقانوني الضاغط والرابض على صدور الحركة الإسلامية بالعالم، هناك نزوع نحو إدانة تلك الحركات وتحميلها للدمار والدماء والأشلاء، وبحوث جادة رصدت التأسيس النظري الذي سببته جماعة الإخوان المسلمين لتكون مرجع تنظيمات «القاعدة» و«داعش»، هذا سبب الهروب اللغوي واللفظي لديهم.. ولتعلمنّ نبأه بعد حين.