مصطفى فحص
كاتب وناشط سياسي لبناني. حاصل على الماجستير في الدراسات الإقليمية. خبير في السياسة الخارجية لروسيا بالشرق الأوسط. متابع للشأنين الإيراني والعراقي. وهو زميل سابق في «معهد العلاقات الدولية - موسكو (MGIMO)». رئيس «جائزة هاني فحص للحوار والتعددية».
TT

سوريا وسيناريو 1991 العراقي

في كتابه «القسوة والصمت»، أطلق الكاتب والسياسي العراقي المثير للجدل كنعان مكية لقب «أبو حيدر» على ضابط مدرعات عراقي، كان ضمن رتل الدبابات المنسحبة من الكويت التي وصلت إلى «ساحة سعد» وسط مدينة البصرة، حين قام أبو حيدر الافتراضي بإعطاء الأمر لطاقم دبابته بإطلاق عدة قذائف على جدارية كبيرة لصدام حسين، مشيدة إلى جانب مبنى قيادة حزب البعث في البصرة، وسط هتاف حشد من الجنود الفارين من الكويت وبعض المدنيين المندهشين: «صدام انتهى الجيش كله مات».
فجرت حادثة البصرة، التي جرت على الأرجح في الثالث من مارس (آذار) 1991، تمردًا عسكريًا ومدنيًا، توسع ليشمل أغلب محافظات الجنوب والوسط، إضافة إلى أغلب مناطق كردستان، حيث وصل المنتفضون حينها إلى منطقة المحمودية التي تبعد 20 كلم عن العاصمة بغداد، فشكلوا بذلك تهديدًا جديًا لنظام صدام حسين المتهالك، ما دفع الدول الكبرى المشاركة في حرب تحرير الكويت، للسماح لصدام باستخدام المروحيات العسكرية، ونقل ما تبقى لديه من عتاد ثقيل لقمع الانتفاضة، التي فاجأت حسابات الحلفاء الذين حسموا أمرهم سريعًا، وفضلوا التعامل مع نظام ضعيف مسيطر عليه، أفضل من تمرد مجهول الهوية والأهداف والخلفيات بالنسبة لهم، وسط اعتقاد قوي أن إيران ستكون المستفيد الأول، لو تمكن الجنود من دخول بغداد وإسقاط نظام البعث حينها.
بعد 25 سنة على التجربة العراقية المأساوية، التي تخللها حصار استمر 12 عامًا، ساهم في تفتيت المجتمع العراقي، وأدى إلى التأسيس لانفصال كردي تدريجي عن الدولة المركزية، بعد أن حظي الأكراد بحماية دولية مع إقرار شبه حكم ذاتي سنة 1991 في كردستان، يحاول المجتمع الدولي تكرار التجربة العراقية في سوريا، فبعد عجز الأسد عن قمع ثورة الشعب السوري، وفشل إيران وميليشياتها الطائفية في تركيع السوريين، تم توكيل المهمة لموسكو الراغبة في تحقيق امتيازات سياسية وعسكرية، أتاحها لها التراجع الأميركي المقصود عن دعم الثورة السورية.
لم تلتفت موسكو إلى أغلب الانتقادات التي اتهمتها بإفشال مباحثات جنيف الأخيرة، والتي جرت تحت سقف القرار الأممي 2245 الذي صيغ أصلاً وفق إرادتها، بل تصرفت من موقع القوة الذي يتيح لها فرض مشروعها على الشعب السوري وعلى الدول الإقليمية المعنية بالمسألة السورية، خصوصًا تلك الداعمة للمعارضة، التي لم يعد بإمكانها غض الطرف عن الأعمال الوحشية للطيران الروسي، الذي يتبع سياسة الأرض المحروقة من أجل الوصول إلى أهدافه التي باتت تتقاطع بالكامل مع طهران.
تعمل روسيا علنًا على إنهاء المعارضة المعتدلة، التي لم يتبقَ لها الكثير من الداعمين الحقيقيين، والتي على مدى 5 سنوات من عمر الثورة لم تحظَ بثقة الغرب أو دعمه، وبقيت بالنسبة لنزيل البيت الأبيض مجموعة من الأطباء والفلاحين، حملوا السلاح بوجه نظام استطاع حلفاؤه الإبقاء عليه، ولو كجثة تستخدم في تمرير مشروعهم للسيطرة على سوريا، بقبول وموافقة أميركية إسرائيلية، تفضل التعامل مع نظام معروف، حتى لو وصفته سابقًا بالفاقد للشرعية، عن معارضة منعت من الحصول على الشرعية! فيما تدور المنافسة بين موسكو وواشنطن على كسب ود الأكراد السوريين، الذين أصبحوا أقرب إلى إعلان حكم ذاتي، سيزيد حجم المأزق الإقليمي تعقيدًا.
بين محادثات جنيف ومؤتمر ميونيخ، حصلت موسكو على شبه غطاء من البيت الأبيض لخوض معركة الحفاظ على النظام، من خلال التدمير الكامل للمعارضة المعتدلة، وإرغامها على القبول بالقراءة الروسية للاتفاقيات الدولية، والإصرار على تحقيق مكاسب عسكرية باسم الأسد، تعيده كلاعب وحيد داخلي، مقابل خصم وحيد هو «داعش»، حيث يصبح الجميع أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما الأسد وإما «داعش».
كان البعد المذهبي في الانتفاضة العراقية جزءًا من مأزقها، واستطاع نظام صدام الاستمرار لسنوات بسبب سياسة بيل كلينتون الديمقراطي، إضافة إلى حاجة السوق السوداء للنفط العراقي. أما في المعادلة السورية، فإن انتماء أكثرية السوريين إلى الأغلبية العربية الإسلامية، تحول إلى مأزق أمام من يحاول سلخها عن عمقها التاريخي، وأسوأ رئيس في تاريخ الولايات المتحدة، كما يتداول، سيغادرنا خلال أشهر، بينما دول عربية وإقليمية تستعد لفرض رؤيتها وحماية مصالحها في المنطقة، ما يضع بوتين أمام أمر واقع جديد مواجهته مكلفة وتجنبه هزيمة.