نديم قطيش
إعلامي وكاتب سياسي لبناني، عمل مقدماً لبرنامج «دي إن إيه» اليومي الساخر الذي بُث على شاشتي «العربية» و«المستقبل». يقدم حالياً برنامج «الليلة مع نديم» على شاشة «سكاي نيوز عربية» الذي يجمع فيه بين السخرية والتعليق السياسي الجاد.
TT

انهيار النخبة السياسية في لبنان

ثورات كثيرة تتراكب فوق بعضها البعض في المشهد اللبناني. ليست ثورة واحدة. ليست أجندة واحدة. وككل الانتفاضات أو الثورات أو الحراكات الشعبية ثمة رهانات كثيرة ومحاولات استغلال وخطف لا حصر لها.
غير أن الحراك الذي اندلع بسبب أزمة النفايات والإدارة الفاشلة للملف، أكان إدارة الوزير المعني أو سياسات التعطيل التي مارسها حزب الله والتيار الوطني الحر بزعامة الجنرال ميشال عون بغية شل الحكومة.
السيد محمد المشنوق، وزير البيئة، وهو مقرب من رئيس الحكومة وأحد ثقاته لم يفعل ما يكفي قبل حلول الأزمة حتى لرفع مستوى الإنذار بشأنها، وكسب المعركة الشعبوية، معتمدًا على منطق التسوية واللفلفة والاتفاق السياسي مع النائب وليد جنبلاط الذي وعد بإبقاء أحد المكبات الرئيسية في «منطقته» مفتوحًا. نام الوزير على حرير الوعد الجنبلاطي الذي لم يتحقق. وانفجرت الأزمة. ومضى الوزير من ارتباك إلى آخر ومن فشل إلى آخر، آخرها فضيحة دفاعه عن فض العروض، ثم انتقادها والمطالبة بتحسينها بعد تراجع الحكومة عنها!!
شراكة فريق حزب الله في الفشل ليست قليلة. فالحكومة التي أمر حسن نصر الله بتشكيلها بعد الإطاحة بحكومة الرئيس سعد الحريري، ورثت من الحريري خطة متكاملة ومقرة لمعالجة ملف النفايات، لكنها منعت التنفيذ أو تغاضت عن تنفيذ مقررات مجلس الوزراء السابق لحسابات تتصل بشراكة الرئيس نجيب ميقاتي في شركة سوكلين التي تتولى ملف النفايات منذ نحو عقدين. ثم تحالف حزب الله مع عون في الحكومة الحالية على تعطيل عمل مجلس الوزراء لحسابات تتصل بمعركة ميشال عون الرئاسية، وأخرى تتصل بمعركة حزب الله لتعديل النظام وانتزاع حصة أكبر في قرار السلطة التنفيذية.
توزيع المسؤوليات هنا ليس حصرًا للإرث. إنما إشارة إلى أن ثمة شيئا كبيرا حصل في العمق عبرت عنه المظاهرات الأخيرة في لبنان. كان لافتًا أن الحراك الشعبي، في أساسه وفي عمقه هو حراك في مواجهة النخبة السياسية كلها. هو إعلان انهيار الثقة بالنخبة السياسية على حلبة ملف النفايات.
وهذا الانهيار سببه في الواقع فقدان الطبقة السياسية لموضوعها بانهيار ركيزتين أساسيتين نهضت عليهما الحياة السياسية اللبنانية بصراعاتها وتحالفاتها ولغتها وعصبياتها. وهما أولاً موضوع العلاقة مع سوريا وثانيًا موضوع سلاح حزب الله.
دار الجزء الأكبر من الحياة السياسية في لبنان حول سوريا والعلاقة معها، منذ تولي حافظ الأسد الحكم في دمشق. واستمر هذا المحور مقررًا للسياسة اللبنانية ومنتجًا لها ولنخبها حتى خروج سوريا من لبنان ثم اندلاع الثورة السورية عام 2011، ذوى الموضوع السوري تدريجيًا وكان يرثه موضوع سلاح حزب الله، إلى أن تحول دخول حزب الله إلى سوريا إلى حرب استنزاف طويلة ومذبحة مفتوحة بينه وبين السوريين. في عام 2015 يبدو سلاح حزب الله ذابلاً وبلا أي مشروع سوى السطو العاري على أمن الناس ومستقبلهم، وهو ما سيفاقمه التقارب الإيراني مع شياطين الأرض ومنتجي المؤامرات!!
لبنان إذاك، بإزاء حياة سياسية يضربها تصحر العناوين، وبالتالي ضمور الوظيفة، وترهل النخب السياسية التي زاد انكشافها فشلها المريع في مسألة الإدارة. إدارة النفايات، والخدمات والتوظيف والأمن والاقتصاد وغيرها الكثير.
هذا هو الفراغ السياسي الذي تملأه قطاعات جديدة بعضها كان في صلب انتفاضة الاستقلال، التي ما عادت قادرة على تخيير الناس، بين وجوب القبول بقلة الكفاءة وضعف المبادرة وانعدام الابتكار وتفاهة الكثير من النخب المُنتَجة، وبين أن يسقط البلد بيد سلاح حزب الله. جزء رئيسي من هوية حراك الناس في الشارع ضد الاثنين معًا.
اعتدنا في لبنان على ألا يمر أكثر من عقد إلا وتحل نقطة تحول على الحياة السياسية والوطنية. الحقبة التي بدأت عام 1969 باتفاق القاهرة طوتها الحقبة التي بدأت بالحرب الأهلية الرسمية عام 1975، وهذه طواها الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 مفتتحًا حقبة جديدة تأخرت حتى عام 1984 بانقلاب الميليشيات «الإسلامية» على النظام «الماروني»، ثم ما لبثت أن طويت هذه بمرحلة جديدة بدأت مع توقيع اتفاق الطائف وما تلاها من معالجة ذيول الحرب الأهلية وافتتاح عهد عام 1992 والحريرية السياسية. لم تمر سنوات ثمان وإلا وكانت إسرائيل خرجت من لبنان عام 2000 مفتتحة «عصرًا» لبنانيًا جديدًا عنوانه تجدد الاصطدام بسوريا. ثم اغتيال الحريري عام 2005 ثم ثم ثم..
2015 دخل لبنان مرحلة جديدة وخطيرة، تحتاج إلى ابتكارات فذة لتجديد الثقة بين الناس وبين الدولة والنظام السياسي، وتحسين نسل النخبة السياسية، قبل سقوط الهيكل على الجميع.
مسؤولية الحراك كبيرة في حمايته من الاختطاف، لا سيما من محاولات حزب الله استخدام الغضب الحقيقي والمشروع بغية قلب النظام. لكن هذا الحرص لا ينبغي أن يمنعهم من تعرية النخبة السياسية الحاكمة وجرها إلى حيث لا تريد، وهو إعادة الاعتبار للكفاءة على حساب فائض الولاء، ولفعل الإصلاح الحقيقي على حساب الشعاراتية الشعبوية والصراخ!!