محمد مصطفى أبو شامة
كاتب وصحافي مصري
TT

طفلة في صندوق القمامة

لن أشغلكم بتفاصيل قصة الطفلة التي وجدت في صندوق قمامة بحي شبرا (شمال القاهرة)، ولا بسر لقائها مع رئيس الوزراء المصري إبراهيم محلب، الذي زينت به صحف القاهرة صدر صفحاتها، ولن أقف خلف منصة القاضي الذي يحاكم أسرة مصرية - لأي سبب يخصها - لم تجد أفضل من «صفيحة زبالة» لتتخلص فيها من ابنتها.
كما أنني لن أتوقف معكم عند ما حدث لهذه الطفلة من إصابات وكسور، ولا عند أب وأم وعم وجد تجمدت قلوبهم قبل أن يلقي كل منهم بالتهمة في وجه الآخر، ولن أزيد الأمر سوادا بقصة الحالة الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأسرة المجرمة.
حقا لا أنوي أن أدمي قلوبكم على هذه الطفلة المصرية المسكينة البائسة، لأني أحتاج إلى قلوبكم سليمة كي تشعر بحال كل أطفالنا، الذين نلقي بهم نحن في كل لحظة، إلى صناديق أخرى أكثر خطورة من «صندوق القمامة»، نلقي بهم إلى عوالم مجهولة تسحبهم تدريجيا من أحضان أسرهم وتنتزع منهم ملامح الإنسانية وتعيد تشكيل وجدانهم بصور متهرئة للعالم من حولهم، فيكبرون لا بشرًا، بعد أن ترعرعوا في بيئة التكنولوجيا الحديثة، التي فرحنا بها وتخيلنا دون أن نقصد أننا نزيح عن كاهلنا عبئهم، ونشغلهم بما يفيد وينفع، مثلما فعل آباء سبقونا عندما تركوا أبناءهم خلال العشرين عاما الماضية لمستحدثات عصرهم التي تلاحقت من «الفيديو كاسيت» إلى «الكومبيوتر وإنترنته» مرورا بـ«الدش» وشياطين الفضائيات المفتوحة والمشفرة، فخلقت أجيالا أصبحت تستمتع بـ«الذبح» وتتعامل مع القتل على أنه وجبة يومية روتينية، تمارسه في سعادة وبهجة.
لقد ألقينا جميعا المستقبل في صندوق القمامة، عندما اخترنا التكنولوجيا بديلا عنا، فقتلنا اهتمامات أطفالنا البشرية والطبيعية، ولا زلنا نمارس الخطيئة - دون قصد - بفعل الطوفان المستمر والمتلاحق لموضات التكنولوجيا الجديدة والتي تطاردهم حتى في أحلامهم بين التطبيقات والألعاب والشخصيات المشوهة.
عندما تستوقفني كل يوم، صغيرتي مريم، وهي تذكرني بطلباتها قبل خروجي للعمل، وتتلو القائمة كالتالي: باد، لاتة، كوتة.. قاصدة بنفس الترتيب، آيباد، شوكولاته وبسكويت، ومستبقة الـ«باد» على حلواها الممتعة، فإني أدرك أن الأمر أصعب من قدراتي وقدراتكم على المقاومة، خاصة بعد أن تحولنا جميعا إلى أسرى لأجهزتنا المحمولة، وهو ما يراه أطفالنا منذ لحظة ولادتهم. لقطة عامة لأي أسرة في غرفة المعيشة، ستجد كل أفرادها منشغلين على أجهزتهم، بل لقد أصبحوا يتواصلون معا وهم في نفس الحجرة عبر هذه الأجهزة، لهذا يكبر أطفالنا وهم أكثر تعلقا منا بعالم ما وراء التابلت والآيباد والكومبيوتر، وتطبيقاتها وتعاليمها وسحرها، وهي مواد لا تغذي عقولهم، بل تنسخها على شاكلة داعشية مرعبة.
أفيقوا أيها السادة وانتبهوا، وأنقذوا أبناءكم من صندوق القمامة، أعلم صعوبة ما نواجه، وأعلم أننا جميعا وقعنا في نفس الفخ، وأعلم أخيرا أن علينا أن نقاوم ونحاول ونستمر، لعلنا نلحق طفلا وننقذ به أمة.