قال الصحافي الشهير للصحافي الناشئ: «قرأت مقالك اليوم وأعجبني. أغلب الظن أنك سمعت الكلام نفسه من آخرين. من واجبي أن أسدي إليك نصيحة، فقد بهرتني قبل عقود رؤية اسمي مطبوعاً في صحيفة ثم تولت الأيام تدريسي. تذكر دائماً أن الصحيفة تموت قبل غروب الشمس. وأن ذاكرة القراء تفضل النسيان. لا تخلط الأحلام بالأوهام. وإذا هبّت عليك رياح الغرور اذهب إلى المكتبة القريبة. حدّق في الكتب المسجاة على الرفوف وأسماء أصحابها. الدرس واضح. كتبوا أفضل منك وحجزوا مقاعدهم. وأقصى ما تستطيعه أنت، إن نجحت، هو أن تكون مجرد نقطة في بحر. التواضع أستاذ دائم والغرور فخ مفتوح. ومع التجارب ستتعلم أن هذا الكلام يصدق في الصحافة والسياسة معاً. أفرط شارل ديغول في مخاطبة فرنسا من فوق رؤوس الفرنسيين فأحالوه إلى التقاعد».
حكاية أخرى. كان معمر القذافي يحب أن يسهر أحياناً مع شعراء ومغنين. وكما غالبية العرب كان يحبّ المتنبي. لكن رواد الخيمة لاحظوا أن ملامحه كانت تشي بالانزعاج إذا قرأ أحدهم واحدة من القصائد التي يمتدح فيها الشاعر سيف الدولة. ألف سنة من الفارق لم تمنع الأخ العقيد من الشعور بالغيرة من سيف الدولة لأنه عثر على من يأخذه إلى التاريخ. نسي أنه من السهل على الحاكم العثور على مدّاحين، لكن من المستحيل العثور على المتنبي. لا يكرر الزمن خطيئة باهرة بهذا الحجم.
إنها مصيبة فعلاً أن يعتقد حاكم يمتلك قوة مالية ضاربة أن التاريخ كلّفه مهمة تغيير ملامح منطقته أو العالم، وينسى أن دوره الأول هو تنمية بلاده وأن الأدوار خارجها يجب أن تكون محكومة بالقوانين والأعراف الدولية. ثمة من يقول إن الأخ القائد ارتجل «الكتاب الأخضر» لينافس «فلسفة الثورة» الذي دبّجه جمال عبد الناصر أو «الكتاب الأحمر» الذي حاكه ماوتسي تونغ. ولنا أن نتخيّل كم كانت ليبيا ستصبح مختلفة لو أن سلوك القذافي اتسم بقدر من التواضع والواقعية. لو أنه اختار بناء جامعة محترمة في ليبيا بدلاً من الإنفاق على «الجيش الأحمر الياباني» وأشباهه. غياب التواضع جعله باهظاً على بلاده وجيرانه والعالم.
حكاية ثالثة. على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2011 في نيويورك رتب الشيخ حمد بن جاسم، رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري آنذاك، عشـــاء مع الشيخ حمد بن خليفة أمير قطر السابق، ودعا إليه محمود جبريل رئيس الحكومة الليبية آنذاك وعبد الرحمن شلقم، ممثل ليبيا في الأمم المتحدة وقتها، ووزير الخارجية السابق. كان الغرض من العشاء تبديد سوء التفاهم الذي حدث حين قاطع أمير قطر جبريل في باريس وأمام نيكولا ساركوزي وديفيد كاميرون رافضاً فكرة جمع السلاح من الثوار لمصلحة مؤسسة أمنية رسمية.
لم تنجح محاولة حمد بن جاسم. فقد كرر الأمير أن جبريل يجب أن يبقى رئيساً للحكومة لكن من دون أن تكون له سلطة على شؤون الأمن والدفاع. وبدا واضحاً أن الدوحة متمسكة بإعطاء عبد الحكيم بلحاج، المقاتل السابق في أفغانستان، الدور الأول في هذا الميدان. انفعل شلقم خلال اللقاء وقال لأمير قطر: «أنا أخاف يا سمو الأمير أن العلم القطري الذي رفع في ميادين بنغازي خلال الأسبوع الأول للثورة سيأتي عليه يوم، إذا استمرت قطر في هذا الاتجاه، سيُعامل بطريقة أخرى». غضب الأمير وأجابه: «لا تقل ذلك يا عبد الرحمن». وكانت النتيجة أن غادر المسؤولان الليبيان بلا عشاء، وتضاعفت قناعة جبريل بالاستقالة من منصبه، وهو ما فعله.
والسؤال هو هل يحق لأمير قطر أو لغيره أن يقرر من يجب أن يبقى رئيساً للحكومة الليبية وبأي صلاحيات حتى ولو قدّم للثورة الليبيــة السـلاح والمال؟ وإذا كان لا يحق لسيد البيت الأبيض وقيصر الكرمليـن أن يفعلا ذلك فكيف يحق لغيرهمــا حتى ولو امتلك عائدات هائلة وماكينة إعلامية هجومية وناجعة؟
تستطيع الدول الصغيرة لعب أدوار كبرى، لكن بتقديم نموذج ناجح أو بالإشعاع الثقافي أو الفكري أو بالنجاح الاقتصادي. القيام بانقلاب كبير على أدوار تاريخية قصة أخرى وتتضمن مقداراً غير قليل من المجازفـــة.
واضح أن من التسرع، إن لم نقل من التهور، أن تتقــدم دولة صغيرة لبناء سياستها على قاعدة تقليم أحجام دول راسخة تعتبر أدوارها طبيعية في أمن الإقليم واستقراره. واضح أن فكرة المثلث السوري - القطري - التركي بُنيت أساسا على قاعدة الرغبة في تقليص الدورين السعودي والمصري في المنطقة. وواضح أيضاً أن الرعاية القطرية لـ«اتفاق الدوحة» اللبنــاني كـانت ترمي إلى تكبيــل «اتفاق الطائف» الذي عقد برعاية سعودية.
قبل عقدين رسمت قطر لنفسها سياسة هجومية تميزت بتدخلات مباشرة وعلنية، خصوصاً في ساحات «الربيع العربي». لم تعد هذه السياسة صالحة حالياً بسبب التغييرات التي شهدتها المنطقة والتغيير الأخير في واشنطن. اصطدمت هذه السياسة بأكثر من جدار، والدليل أن قطر الآن في حال اشتباك مع أكثر من دولة وعاصمة.
تحتاج قطر إلى مراجعة حساباتها. تحتاج إلى قطرة تواضع لا بد منها للتحلي بالواقعية في استخلاص العبر. التواضع يساعد الدولة على فهم حدود دورها. يساعدها أيضاً على فهم حدود أدوار الآخرين. قطرة ضرورية لتجنيب قطر أثمان الطلاق مع بعض جيرانها. إنها قطرة تواضع من أجل قطر نفسها، قبل أن تكون من أجل الآخرين. لا بد من العودة إلى الدولة الطبيعية والأدوار الطبيعية.
8:32 دقيقه
TT
قطرة تواضع من أجل قطر
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة