كانت زيارة الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات إسرائيل غير مفاجئة لبعض الدول العربية الرئيسية، خصوصاً دول الصمود والتصدي، وكانت مفاجئة للوطن العربي والعالم أجمع، والأكثر اندهاشاً وصدمة قرارات كامب ديفيد التي وقع عليها الرئيس المصري مع رئيس وزراء إسرائيل برعاية أميركية في منتجع كامب ديفيد، وبحضور الرئيس الأميركي كارتر في 17 سبتمبر (أيلول) 1978م، وقد أدى هذا القرار المنفرد للرئيس المصري إلى موقف عربي غاضب ومعارض لهذه الاتفاقية، مما أدى إلى عقد مؤتمر قمة عربي ببغداد في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) 1978م، وكان من أهم قراراته عدم الموافقة على اتفاقيتي كامب ديفيد، وتلاها بعد ذلك مؤتمر وزراء الخارجية في شهر مارس (آذار) الذي تضمنت قراراته قطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر، وسحب السفراء منها، ونقل مقر الجامعة العربية إلى تونس، وكانت المملكة إحدى الدول الرئيسية الموقعة على هذه القرارات، وكان العراق وسوريا ومنظمة التحرير أكثر المتشددين في هذا المؤتمر، ولم يخالف الإجماع سوى سلطنة عمان.
نفذ قرار المقاطعة بالنسبة للمملكة العربية السعودية، وتولت رعاية مصالح المملكة في القاهرة سفارة باكستان، وأصبحت السفارة السعودية تابعة لسفارة باكستان سياسياً وإدارياً في جميع اتصالاتها مع الحكومة المصرية، واستمر هذا الوضع، رغم أن العلاقات التجارية والثنائية بين الشعبين لم تنقطع، بل استمرت رحلات الخطوط السعودية بتواصل رحلاتها اليومية للقاهرة مع المدن السعودية، وكذلك العمالة المصرية لم يتوقف إرسالها وعملها في دول الخليج، وبقي هذا الوضع، واستمر الرئيس السادات في مهاجمة المملكة إعلامياً في مؤتمراته الصحافية، لمعرفته بثقل المملكة ومكانتها، وكان يأمل أن تتفهم المملكة موقفه وتقف على الأقل على الحياد، لكن الوضع السائد وقتها جعل المملكة تقف مع الإجماع العربي. بقي هذا الوضع في العلاقات السياسية بين السعودية ومصر على هذه الحال لعدة سنوات، أي منذ عام 1979م إلى عام 1987م، ورغم حادث الاغتيال الذي تعرض له الرئيس السادات - رحمه الله - عام 1981م، وتولي الرئيس حسني مبارك مسؤولية الحكم في مصر، فإن العلاقات السياسية استمرت على ما هي عليه، وليس سراً أنه كانت هناك اتصالات سرية حدثت بين قيادة البلدين.
في بداية شهر ديسمبر (كانون الأول) 1986م كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز (أميراً لمنطقة الرياض) في زيارة رسمية لفرنسا بدعوة من رئيس الوزراء في ذلك الوقت الرئيس جاك شيراك، وكانت المناسبة هي رعاية وافتتاح معرض «المملكة بين الأمس واليوم» في باريس في محطته الثالثة، بعد نجاح هذا المعرض في ألمانيا وبريطانيا.
كنت المسؤول وقتها عن برنامج الزيارة والمقابلات وعضواً في اللجنة المنظمة للمعرض ومرافقاً لخادم الحرمين الشريفين ضمن الوفد الرسمي في هذه الزيارة، وبعد افتتاح المعرض في كبرى القاعات الشهيرة في باريس «غراند باليه»، والنجاح الكبير الذي تحقق في بدايته من كثرة الزوار الذين كانوا ينتظرون في الطوابير الطويلة بشارع الشانزليزيه للدخول إلى هذا المعرض بالساعات، وحقق هذا المعرض وهجاً إعلامياً سعودياً في جميع وسائل الإعلام الفرنسية، ونجاحاً مميزاً للخطة الإعلامية التي وضعت للمعرض من اللجنة المنظمة، وبإشراف السفير جميل الحجيلان في ذلك الوقت.
أثناء هذا المهرجان والبرنامج الرسمي والاحتفال بخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان في باريس كان يوجد الرئيس المصري حسني مبارك في زيارة رسمية لفرنسا، وأبلغني الملك سلمان أنه سيلتقي مع الرئيس حسني مبارك في مقر إقامته، وأن السفير جميل الحجيلان تولى الترتيب لهذا اللقاء مع السفير المصري، وأنني سوف أرافقه في هذه الزيارة، وفي مساء أحد أيام باريس شديدة البرودة تم اللقاء بمقر إقامة الرئيس مبارك بحضور الإعلام السعودي والمصري، وجرى خلال اللقاء بحث العلاقات الأخوية بين البلدين في لقاء ثنائي تحدث فيه الرئيس مبارك عما سمعه عن النجاح الذي يحققه معرض السعودية في باريس، وعرض خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان على الرئيس حسني مبارك إقامة هذا المعرض في القاهرة، ورحب الرئيس حسني مبارك بهذا المقترح، واتصل مباشرة برئيس وزرائه عاطف صدقي، وطلب منه تسهيل كل الإجراءات لإقامة هذا المعرض، وأبلغه بأن الجانب السعودي سيتصل به، وعليه تسهيل هذه الإجراءات، ووضع جميع الإمكانيات لإقامة هذا المعرض، ونقلت أحداث هذا اللقاء في الإعلام السعودي والمصري دون تفاصيل، واستبشر الناس بقرب عودة العلاقات بين البلدين الشقيقين، وبعد ذلك كلف الملك سلمان اللجنة المنظمة للمعرض بالسفر إلى القاهرة ومقابلة المسؤولين هناك، والعمل على سرعة إقامة المعرض، وكنت أحد أعضاء هذه اللجنة الذين سافروا للقاهرة لتنفيذ هذه المهمة، حيث تم عقد عدة اجتماعات مع المسؤولين المصريين، وكان وقتها السفير أسعد أبو النصر - رحمه الله - هو القائم بأعمال السفارة، وكانت علاقاته وصداقته مع عدد من المسؤولين المصريين عاملاً مساعداً في تسهيل كثير من الإجراءات، إلا أننا كنا نواجه عدم وجود صفة رسمية لسفير المملكة، وكذلك العمل تحت مظلة السفارة الباكستانية، الأمر الذي كان عائقاً لعمل اللجنة، مما جعل الملك سلمان ينقل هذه الصورة إلى الملك فهد - رحمه الله - الذي وجه بأن يعين أسعد أبو النصر سفيراً للمملكة، ويعود عمل السفارة، وإنهاء جميع الإجراءات السابقة، وبهذا كان الملك سلمان هو مهندس عودة العلاقات بين البلدين، وكان معرض المملكة مفتاح عودة هذه العلاقات، وعادت السفارة إلى عملها الدبلوماسي، وانطلقت اللجنة في تنظيم المعرض، وتم افتتاحه بحضور الرئيس حسني مبارك والملك سلمان (أمير الرياض)، في كبرى القاعات بأرض المعارض بمدينة نصر في مارس 1987م، ولقي المعرض نجاحاً كبيراً وإقبالاً من المصريين الذين كانوا يبقون بالساعات أمام مجسمات الحرمين الشريفين وكسوة الكعبة.
كان برنامج الملك سلمان الرسمي حافلاً بالحفاوة الكبيرة، حيث تمت استضافته بقصر الطاهرة، وتم إعداد برنامج مكثف بلقاءات المسؤولين المصريين، منها لقاء الرئيس حسني مبارك، ومساعد الرئيس وزير الدفاع محمد أبو غزالة، ورئيس الوزراء ووزير الداخلية ومحافظ القاهرة، ولقاء خاص مع جمع من المثقفين والإعلاميين المصريين، ثم بعد ذلك زيارة منطقة السويس وميدان معركة أكتوبر (تشرين الأول)، حيث كان في استقباله الفريق حسين طنطاوي قائد الجيش الثاني وقتها، لشرح واقع المعركة ميدانياً، وكانت فرصة لنا بصفتنا مرافقين رسميين أن نطّلع ونسمع ونشاهد معلومات ميدانية مفيدة عن هذه المعركة التاريخية والمشرفة للعرب كافة.
أيضاً لقي الملك سلمان حفاوة شعبية حينما انتقل من القاهرة إلى الإسكندرية قبل عودته للمملكة، فيما استمر المعرض لعدة أيام حتى انتهت مدة إقامته، ولكن لم تنته آثاره الإيجابية، حيث استمرت السفارة والعمل الدبلوماسي السعودي في القاهرة بقوة ونشاط، وتبعه بعد ذلك عودة العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجي، وتلت هذه الزيارة زيارات أخرى للملك سلمان للقاهرة، كانت إحداها لحل قضية كبرى حصلت بين المملكة ومصر، خصوصاً مع ابني الرئيس حسني مبارك، واستطاع تصفية النفوس وعودة روح المحبة والمودة بين قيادة البلدين.
إن المتتبع لهذه الأحداث التاريخية يتبين له أن الملك سلمان السبب الرئيسي في عودة العلاقات مع جمهورية مصر العربية، لبعد نظره السياسي، ولحرصه على عودة هذه العلاقات، ولإدراكه أهمية مصر وإمكاناتها في خدمة القضايا العربية، وكان يرتبط بصداقة مع عدد من المسؤولين والإعلاميين المصريين الذين كانوا على تواصل دائم معه، وكنت وما زلت أتذكر كثيراً من هذه الاتصالات.
إن المتتبع الآن للأحداث والعلاقات بين البلدين يجدها تزداد رسوخاً وعمقاً من خلال الزيارات المتبادلة والاتفاقيات والشراكات الاستراتيجية التي كان آخرها ما وقع عليها العام الماضي من اتفاقيات أثناء زيارة خادم الحرمين الشريفين لمصر.
أيضاً كان من الملاحظ سلبية بعض وسائل الإعلام التي ساهمت في الجفاء بين البلدين، خصوصاً بعد تصويت مصر في مجلس الأمن في القضية السورية.
وبمناسبة قرب انعقاد القمة العربية في عمان بالأردن فإن الحكمة والرؤية التي يتمتع بها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان الذي هو أساساً مهندس عودة العلاقات السعودية - المصرية، فإنني أتوقع لقاءه مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وإنهاء هذه الضبابية في بعض القضايا العربية الرئيسية وفي العلاقات السياسية الثنائية بين البلدين، بحيث يكون هناك مستقبل مشرق وواضح يحقق العمل على ما يجمع الأمة دون النظر إلى بعض الاختلافات في وجهات النظر، فلكل دولة الحق والرأي فيما تعتقد أنه يحقق مصالحها، ويكفي للعالم العربي ما يعانيه من خلافات وحروب أهلية... إننا الآن بحاجة إلى الوحدة في المواقف والآراء واليد الواحدة، وهذا ما نأمل أن تحققه قمة عمان.
* عضو مجلس الشورى السعودي
8:11 دقيقه
TT
الملك سلمان والعلاقات السعودية المصرية
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة