حتى بعدما انتقلت هذه الحرب المدمرة ضد الشعب السوري واستخدام أسلحة محرمة، دوليًا وإنسانيًا، في هذا الهجوم الوحشي، على مدينة حلب، فإن ما يوجع القلب فعلاً أن العرب الذين بقوا يراقبون كل هذه الويلات، التي حلَّت بسوريا على مدى الأعوام الخمسة الماضية وكأن على رؤوسهم الطير، لم يحركوا ساكنًا ولم يطلقوا ولو مجرد تصريحات خجولة ومن قبيل رفع العتب وإرضاء شعوبهم المغلوبة على أمورها، وكأن هؤلاء الأطفال الذين تمزق أجسادهم الطرية «شظايا» الصواريخ والقنابل العنقودية الروسية لا ينتمون إلى هذه الأمة، التي بات يتطاول عليها حكام إيران وجنرالاتهم الذين غدوا يسرحون ويمرحون في بغداد عاصمة العباسيين، وفي دمشق عاصمة أول دولة عربية التي هي الدولة الأموية.
أأمَّتي يا شموخ الرأس متلعة
مَن غَلَّ رأسك في الأوحال والركبِ؟!
أأنتِ أنتِ أم الأرحامُ قاحلة
وبدّلت عن أبي ذرٍّ أبا لهبِ؟!
حتى واشنطن ومعها باريس ولندن لم تبق صامتة ولم تستطع السكوت إزاء كل هذه المجازر «النازية»، التي يرتكبها الروس ومعهم الإيرانيون وشراذمهم المذهبية والطائفية، فقد اتهمت القوات الروسية بارتكاب «جرائم حرب» في سوريا، هذه الدولة العربية التي من سوء طالعها أنها انتهت بعد أكثر من عشرين انقلابًا عسكريًا شهده النصف الثاني من القرن العشرين، انتهت إلى هذا النظام المستبد الذي استعان، لقهر شعب من المفترض أنه شعبه، بدولة هذا الستاليني (الصاعد) فلاديمير بوتين؛ روسيا الاتحادية.
إنه لا يمكن إغفال أن الجامعة العربية، كثَّر الله خيرها، قد أصدرت بيانًا مقتضبًا ووفقًا لقاعدة «ما قلَّ ودل» تطرقت فيه إلى إدانة «رمادية» خافتة حمالة أوجه، وأن الأمين العام أحمد أبو الغيط، هذا الدبلوماسي المثقف البارع فعلاً وحقًا وحقيقة، بدل أن يدعو لاجتماع عاجل للجنة العسكرية لـ«بيت العرب» اكتفى بالمطالبة بمشاركة «جامعته»!! في المفاوضات التي تجري لحل ما يسمى «الأزمة السورية»، والتي أصبحت مع الوقت مفاوضات روسية - أميركية متوقفة، وذلك رغم الاتفاق الأميركي - الروسي الأخير الذي تم إبرامه بين جون كيري وسيرغي لافروف، الذي ربما لسوء ما يحتويه، حرص الجانبان على عدم كشف النقاب عما تضمنه وما جاء فيه.
إنه لا شك في أنَّ هناك دولاً عربية، تتقدمها المملكة العربية السعودية، قد بادرت ومنذ البدايات إلى الوقوف وبكل ثقلها وبكل ما لديها من إمكانات عسكرية وسياسية ومالية وإعلامية، إلى جانب انتفاضة الشعب السوري، ضد هذا النظام الاستبدادي الذي حول سوريا العظيمة (القطر العربي السوري)، إلى محمية إيرانية وإلى مستعمرة روسية، لكن لا شك أيضًا في أن هناك دولاً عربية بقيت تلوذ بصمت مريب إزاء كل هذا الذي يفعله الروس والإيرانيون، ومعهم عشرات الشراذم الطائفية المتورمة بأحقاد مذهبية تاريخية دفينة، وكأنها لم تسمع بذلك المثل العربي الذي يقول: «إنَّ من يتغدى بشقيقك سيتعشى بك لا محالة».
ولعل ما يجب أن يقال هنا، وبوضوح وصراحة، إن بعض العرب، بعض الدول العربية على الأصح، قد «اخترعت» دبلوماسية رديئة للهروب من المواقف القومية الحاسمة والواضحة أطلقت عليها مصطلح «المساحات الرمادية» و«الوقوف على مسافة واحدة» من أطراف الصراع في هذه المنطقة، التي بقيت ملتهبة خلال معظم عقود وسنوات القرن العشرين، التي ازدادت التهابًا خلال هذه الأعوام التي مرت من القرن الحادي والعشرين، خصوصًا الأعوام الأخيرة ومنذ بدايات ما اعتبر «ربيعًا عربيًا» وحتى الآن، وحيث أصبح هناك تدخل خارجي في الشؤون العربية، التي من المفترض أنها داخلية ولا يحق لأي دولة طامعة غريبة التدخل فيها.
إنه غير مقبول، وعلى الإطلاق، قوميًا وأيضًا مصلحيًا، أن تضع أي دولة عربية، سواء أكانت قريبة أم بعيدة، نفسها في «مساحة رمادية» بين الشعب السوري والمعارضة السورية «المعتدلة»، والروس الذين دخل تدخلهم لسوريا، قلب العروبة النابض، عامه الثاني، ومعهم الإيرانيون الذين أصبحوا ينخرطون في احتلال استيطاني لسوريا، بتشجيع وتسهيل من هذا النظام البائس الذي لم يعد خافيًا على السوريين ولا العرب في كل أقطارهم أنه حوَّل حتى الآن أجزاءً من دمشق، عاصمة الأمويين، إلى مستوطنات إيرانية، مثلها مثل المستوطنات الإسرائيلية في الجولان المحتل وفي فلسطين.. وتحديدًا الضفة الغربية:
من يَهُنْ يسهل الهوانُ عليه
ما لجرحٍ بميتٍ إيلام
فهل يُعقل يا ترى عندما تعلن إيران، بمُعمميها وبجنرالاتها.. وبمرشدها ويوميًا وفي كل ساعة، أن هدفها هو السيطرة على هذه المنطقة وتحويلها إلى مجال حيوي إيراني، وهو استعادة أمجاد فارس القديمة، أنْ تقبل أي عاصمة عربية، بغض النظر عن حجمها، وسواء أكانت كبيرة أم صغيرة، وبغض النظر عن مكانتها، وسواءً أكانت رئيسية أم ثانوية، بأن تضع نفسها في المساحة الرمادية بين طهران والرياض، وأن تكون على «مسافة واحدة» ممن رفع ولا يزال يرفع راية الدفاع عن هذه الأمة وعن تاريخها وحاضرها ومستقبلها، ومن الطامعين الذين باتوا يحتلون عمليًا سوريا والعراق، وأيضًا أحد «شطري» اليمن، وعمليًا الجزء الأكبر من لبنان، وهذا إن لم يكن كله؟!
إنه لا يجوز لأي عربي أن يضع نفسه في «المساحة الرمادية» بين إسرائيل والشعب الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية، وإنها خيانة ما بعدها خيانة، وفي وضح النهار أن تلجأ أي دولة عربية، وأي جهة عربية إلى الوقوف على مسافة واحدة بين محتلٍّ والشعب العربي المحتلة أرضه سواء من قبل «دولة العدو الصهيوني»، أو أي دولة أخرى، وهكذا فإنه غير جائز ولا مبرَّر على الإطلاق أن تبقى العلاقات مع إيران، التي أصبحت دولة تحتل اثنتين من أهم الدول العربية، على ما كانت عليه، وكذلك فإن المفترض أنه غير جائز إلا أن تدرك روسيا إنْ من خلال الأقوال، وإنْ من خلال الأفعال أنَّ ما تفعله في حلب الآن سيكلفها الكثير بالنسبة لعلاقاتها، إنْ ليس مع كل الدول العربية، فمع بعضها على الأقل.
وأيضًا فإن المفترض أنه غير جائز أن تضع أي دولة عربية نفسها في «المساحة الرمادية» بين مصر (الشقيقة الكبرى) وتنظيم الإخوان المسلمين، عندما يتحول هذا التنظيم الذي تسلم الحكم ذات يوم في غفلة من التاريخ، ولفترة قصيرة، انتهت بإرادة الشعب المصري العظيم وقواته المسلحة الباسلة، إلى تشكيل إرهابي، إنْ مباشرة وإنْ من خلال ما يسمى «أنصار بيت المقدس»، ويرتكب في أرض الكنانة كل هذه الجرائم التي يرتكبها، وبالتالي يشغل هذا البلد العربي الرئيسي والكبير عن القيام بدوره القومي تجاه القضايا العربية الكبيرة والصغيرة، ويشغله أيضًا عن قضاياه الداخلية، وعلى رأسها توفير ولو الحد الأدنى من متطلبات الشعب المصري المكافح، الذي يستحق كل خير ويستحق أن يكون في مستوى شعوب الدول المكتفية المتقدمة.
ولذلك، وفي النهاية، فإنه غير مقبول أيضًا من أي دولة عربية أن تعلن، عندما تذبح حلب بكل هذه الأساليب النازية التي لم تشهد مثلها حتى الحرب العالمية الثانية بكل أهوالها وبشاعاتها، أن تقف بين القاتل والقتيل، وبين المُعْتدي والمعتدى عليه، على مسافة واحدة.
TT
وحلب يذبحها الروس.. عرب يختارون المواقف الرمادية!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة