د. حسن محمد صندقجي
طبيب سعودي واستشاري قلب للكبار بمركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
TT

نحن والقمر جيران

كما أن من السهل علميًا إثبات جدوى بعض السلوكيات الصحية في منح الإنسان المزيد من الصحة وصعوبة إقناعه بجدوى الالتزام باتباع تلك السلوكيات الصحية، فإن من السهل علميًا نفي صحة بعض المعتقدات الشائعة لدى بعض شعوب العالم حول تأثيرات أشياء كونية تحصل من حولنا على صحة الإنسان وسلوكياته وتصرفاته وحالته النفسية، ولكن من الصعب إزالتها من نفوس أولئك الناس المعتقدين بها. وثمة لدى بعض الناس في شعوب العالم فرضية منتشرة، بأن هناك تأثيرات نفسية وسلوكية للقمر وإطلالته على سكان كوكب الأرض خلال مراحل الدورة القمرية الشهرية.
صحيح أن هناك تغيرات تحصل في المناخ والبيئة الأرضية وغيرها نتيجة تأثيرات موجات الإشعاعات الكونية ودورات القمر والشمس وغيرها من الكواكب في الكون، ولكن لم يثبت علميًا أن للكواكب أي تأثيرات نفسية وسلوكية على الإنسان أسوة بتأثيرات تقلبات المناخ وظهور شمس النهار وظلمة الليل والإشعاعات الكونية على أنظمة الجسم وتفاعلاته، مثلما سبقت ملاحظته علميًا حول ارتفاع الإصابات بالنوبات القلبية في ساعات الصباح مقارنة ببقية أوقات اليوم، وارتفاع الإصابات بنوبات الربو في الساعات المبكرة جدًا من النهار، واختلال وتيرة النوم بفعل اختلاف ضوء الشمس، والتغيرات النفسية التي تحصل مع اختلاف فصول السنة، واختلاف كثير من أنظمة العمليات الكيميائية الحيوية التي تطال الكولسترول وهرمون النمو وحرارة الجسم وعمل مناطق شتى من الدماغ وضغط الدم ونبض القلب وغيرها في أوقات معينة من نهار أو ليل اليوم، دون بقية ساعاته.
وعلى سبيل المثال كان شائعًا خلال القرن الثامن عشر واستمر حتى اليوم، ارتباط حصول أعمال الجنون الإجرامية خلال مرحلة البدر، كجرائم القتل، التي سببها حالات من فقد السيطرة والتحكم العقلي على السلوكيات والتصرفات نتيجة تأثير نور القمر على البشر. وقد توالى ظهور دراسات طبية كثيرة لنفي حقيقته وأن الأمر لا يعدو مجرد أوهام.
وضمن عدد 6 مايو (أيار) من مجلة «حدود في طب الأطفال» Frontiers in Pediatrics، نشر الباحثون من كندا نتائج دراستهم حول صحة معتقدات كثير من الأمهات والآباء لتغير سلوكيات أطفالهم بفعل القمر وتقلباته خلال مراحل الشهر Lunar Cycles.
وقال الباحثون في دراستهم: «كثير من الأمهات والآباء يكاد يُقسم أن سلوكيات أطفالهم تتغير بشكل كبير بفعل حدوث اكتمال البدر، وهو ما نفينا صحته في دراستنا». وأضاف الدكتور جان - فيليب شابوت، الباحث الرئيس في الدراسة من معهد شرق أونتاريو للبحوث في كندا، قائلاً: «دراستنا تقدم أدلة دامغة على أن القمر لا يبدو له تأثير على سلوك الناس».
وللتحقيق في الآثار المحتملة لدورات القمر على السلوك البشري، ركز الباحثون في دراستهم على الأشخاص الأكثر عرضة للتغيرات في عادات السلوك والنوم وهم الأطفال. وشملت الدراسة أكثر من 5800 طفل من مناطق مختلفة في القارات الخمس للعالم. وقال الدكتور شابوت: «اعتبرنا أن إجراء هذه الدراسة على الأطفال بشكل خاص سيكون أكثر أهمية وفائدة لأن الأطفال هم أكثر قابلية للإصابة بالتغيرات السلوكية مقارنة بالبالغين، واحتياجهم للنوم هو أكبر مقارنة باحتياج البالغين له».
وتكونت مجموعة الأطفال المشمولين في الدراسة من أطفال ذوي خلفيات اجتماعية واقتصادية وثقافية واسعة. ونظر الباحثون إلى عدد من المتغيرات لدى تلك المجموعة من الأطفال، مثل مقدار السن، والجنس، وحجم الجسم وعادات النوم ليلا ومستوى النشاط البدني وأوقات الراحة والسكون اليومي، كما تم أخذ مستوى التعليم لدى أمهاتهم وآبائهم في الاعتبار أيضًا. ثم تمت متابعة الأطفال لمدة 28 شهرا، أو 28 دورة قمرية، وخلال هذا الوقت قسم الباحثون البيانات التي تم جمعها في واحدة من ثلاث مراحل القمر: القمر الكامل، ونصف القمر والقمر الجديد.
ولم يجد الباحثون أي تغير مهم في مدة النوم ليلاً في وقت القمر الكامل مقارنة بالقمر الجديد، كما لم يجد الباحثون أي تغييرات مهمة أخرى في السلوك بين أي من الأطفال. وخلص الباحثون إلى القول: «بشكل عام، نعتقد أنه لا يجب أن نقلق حول القمر وتأثيراته الشهرية علينا، بل السلوكيات لدينا تتأثر إلى حد كبير بفعل كثير من العوامل الأخرى مثل الجينات والتعليم والدخل والجوانب النفسية والاجتماعية وليس عن طريق قوى الجاذبية القمرية».
وكان الدكتور إيفان كيلي، الباحث النفسي الكندية بجامعة ساسكاتشوان في ساسكاتون، قد بحث في موضوع القمر وتأثيراته على حياة الناس، ونشر أكثر من 15 بحثا طبيا نفسيا عن هذا الموضوع، وراجع أكثر من 200 دراسة علمية طبية عن علاقة القمر بحياة الناس النفسية والصحية، وقال: «رأيي الشخصي هو أن الادعاء بوجود تأثيرات لاكتمال القمر، بهيئة البدر، لم يثبت، علميًا. والدراسات التي تم إجراؤها لم تكن نتائجها متوافقة ومنضبطة. ولكل دراسة إيجابية في نتائجها هناك دراسة أخرى سلبية النتائج تُقابلها، وتُلغيها. وأضاف بالقول: «وبالفعل يبدو أن كثيرًا من نتائج مجموعات الدراسات يُناقض كل منها الآخر». وعلى سبيل المثال، لا الحصر، وجدت دراسة إنجليزية أن احتمالات التعرض لعضات الحيوانات ترتفع في أيام اكتمال البدر، وتحديدًا إلى الضعف، بينما دلّت نتائج دراسة أسترالية مماثلة على أنه لا علاقة «بأي شكل من الأشكال» بين عضات الكلاب واكتمال ظهور القمر.
والواقع أن انتشار مثل هذه الاعتقادات، التي تنتشر في مجتمعات ذات مستويات متقدمة علميًا، والتي تربط بين متغيرات صحية بعوامل لا علاقة بها يُبعد عن الالتفات إلى الوسائل الصحيحة في الاهتمام بالصحة النفسية والبدنية ويشتت الجهود الطبية في هذه المجالات.

* استشاري باطنية وقلب
مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض
[email protected]