باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

الخيار الصحيح: تحديث المجتمعات العربية وتنميتها

لم يأتِ وزير الخارجية الأميركي بجديد في تصريحه بأن الوضع في سوريا معقد جدًا. فتلك حقيقة وواقع يعرفه الكبير والصغير. ولكن ما لم يعترف به الوزير الأميركي هو أن الولايات المتحدة هي في طليعة الدول التي عقّدت الأوضاع في سوريا، لأنها لم تقدِم، كما أمل منها، على التدخل لحسم النزاع أو إنهاء القتال أو فرض حل سياسي دولي على المتنازعين في سوريا، بل بالعكس تركت الروس يتدخلون مباشرة لمصلحة النظام، مكتفية بدعم جوي متواضع وبإرسال عدد من المدربين إلى العراق، وببذل جهود خفيفة في محاربة الإرهاب.
مع «تأكيدها» على أنها تعتبر نفسها الصديق الوفي للعرب والمسلمين، مع العلم بأن الرأي العام في الولايات المتحدة والدول الأوروبية بات معبأ ضد العرب والمسلمين، وغير مستبعد أن يجلس في البيت الأبيض بعد أشهر رئيس يعلن أنه «سيمنع دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة».
لا أحد يستطيع التنبؤ بما ستؤول إليه هذه الصراعات متعددة الأطراف والأهداف في سوريا وفي العراق وليبيا، غير أن معظم الخائضين فيها متفقون علنيًا ونظريًا على أولوية مقاتلة «داعش» كونه أكبر وأخطر تنظيم إرهابي يهدد الأنظمة والشعوب العربية والدول الغربية أيضًا.. إلا أن هذا الالتقاء بين الحلفاء والأعداء على محاربة الإرهاب المتجسم في «داعش»، لم يترجم - ومن الصعب أن يترجم - إلى قيادة عسكرية مشتركة وخطة عسكرية واحدة حتى الآن على الأقل.
ومن هنا كانت هذه الخطوة التي أقدمت عليها المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي بدعوتها لإقامة حلفين عسكريين، عربي وإسلامي، يلقيان بوزنهما في هذه الحروب التي تجتاح قسمًا من العالم العربي.
بطبيعة الحال لن يسر قيام هذين الحلفين الدول الكبرى والدول الإقليمية صاحبة مشاريع الهيمنة الإقليمية كإيران - وإسرائيل خصوصًا - ولكن القضاء على الإرهاب في الدول العربية والإسلامية هو، أولاً وأخيرًا، مسؤولية عربية وإسلامية. والاتكال على الغير للتغلب على الإرهاب، هو ما أدى إلى تفاقمه وإلى تحويله إلى حرب باردة جديدة بين الشرق والغرب وإلى تفجير كل المتناقضات داخل المجتمعات العربية.
ليست هذه المرة الأولى التي تنتفض فيها الدول والشعوب العربية والإسلامية وتعمد إلى مزيد من التكاتف والتنسيق والتعاون، ولكن الخطر، أو بالأحرى الأخطار التي تتعرض لها الدول والشعوب العربية والإسلامية هذه المرة، هي أفدح من كل ما واجهته من قبل، كونها نابعة من داخل المجتمعات العربية والإسلامية ومثيرة لتناقضات خارج العصر، ومهددة في الوقت ذاته للسلام والأمن العالميين.
إن انتشار الإسلام في العالم (مليار وثلث المليار من سكان الأرض) لم يتحقق بالطريقة الدموية العنفية المرعبة التي يتبعها «داعش» و«القاعدة» و«بوكوحرام» و«طالبان» وغيرها من التنظيمات التي اعتمدت الإرهاب والاغتيالات والأحزمة الناسفة والسيارات المتفجرة أسلوبًا، ووجهت تطرفها إلى إخوة لها في العقيدة والقومية، بل تحقق بالدعوة الحسنة والتسامح والتعاون والمودة وطلب العلم ومكارم الأخلاق والقيم السامية. والمعركة الحقيقية التي يجب أن تخاض ضد هؤلاء المتطرفين الذين شوهوا صورة الإسلام في العالم، اليوم، هي، أيضًا، معركة فكرية عقائدية تنقذ المجتمعات العربية والإسلامية من هذا التطرف العنفي والدموي. وكسب هذه المعركة الفكرية العقائدية لا يقل أهمية عن كسب المعارك العسكرية.
صحيح أن العرب والمسلمين يتعرضون لتحديات وأخطار عدة داخلية ودولية وإقليمية، والمطلوب ليست إضافة معارك جديدة عليها تمزق المجتمعات العربية والإسلامية أكثر مما هي ممزقة، وتستعدي دول وشعوب العالم لنا. بل بناء مجتمعات عربية وإسلامية نابضة بالحياة والمعرفة والازدهار والاستقرار والعدالة. وما قدمه ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان من تصور للاقتصاد السعودي لمرحلة ما بعد النفط، هو نموذج للأفق الذي يجب التوجه نحوه، أي المستقبل المرتسم بمعطيات العصر والعالم الجديدة.
الاتكال على الذات وتوحيد طاقات الدول والشعوب العربية والإسلامية وبناء المجتمعات الحديثة، وإبراز الوجه الروحاني والمعتدل والمسالم للإسلام لمحو الصورة المشوهة التي رسمها «داعش» والتنظيمات المتطرفة، هو ما اتجهت نحوه المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربية. وهذا هو الطريق الذي ينقذ سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها من هذا المأزق التاريخي الذي علقوا أسرى فيه.. وليس اتفاق وزيري خارجية روسيا والولايات المتحدة على وقف إطلاق النار في سوريا. فالتطلع إلى الأمام وبناء المستقبل على ضوء معطيات العصر الجديد هو باب الخلاص، وليس الحنين إلى الماضي والعودة بالمجتمعات العربية والإسلامية إلى القرون الوسطى ونزاعاتها.