داليا عاصم
كاتبة صحافية وباحثة في علم الاجتماع الافتراضي
TT

مصر والسعودية.. التاريخ المفقود

كان ذلك قبل حوالى 25 عاما حينما كانت جدتي الراحلة عن عمر 90 عاما تقص علينا في الجلسات العائلية، كيف قام والدها ذو الأصول المغربية الأندلسية، بالحج 11 مرة بواسطة الجمال في رحلات شاقة عبر الصحراء، تلك الرحلة التي كانت تستغرق 4 شهور تقريبا، يعانون فيها من تقلبات الجو والسيول الجارفة وهجمات قطاع الطرق، لكنه كان دوما يروي لهم كيف كان أهل المملكة يتهافتون على رعايتهم حينما يعلمون أنهم من مصر ويحملونهم على "كفوف الراحة" كما نقول بالمصري، وكيف أنقذوهم ذات مرة من السيل الجارف.
كانت رحلات الحج هذه تسفر في كثير من الأحيان، عن استقرار كثير من المصريين بالمملكة والزواج والاستقرار فيها، والعكس أيضا؛ فكان تجار المملكة يستقرون بمصر. كانت تحدثنا عن "المحمل" وتعلق قلوب المصريين به لعلمهم أنه ذاهب للحرمين الشريفين، فكانوا يتراصون بالآلاف في وداعه. وكانت دوما تذكرنا بأن "نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) تزوج من مصرية".
قبيل الزيارة التاريخية لجلالة الملك سلمان وقع بين يدي كتاب مهم بعنوان "العلاقات المصرية - الحجازية في القرن الثامن عشر" للدكتور حسام عبد المعطي، الصادر عام 1999، عن سلسلة تاريخ المصريين، إحدى سلاسل كتب الهيئة المصرية العامة للكتاب. ذلك الكتاب القيم يسرد تاريخ العلاقات المصرية - السعودية، وكم هي ضاربة في العمق وممتدة، وللأسف يجهلها بعض المصريين والسعوديين، وهي ليست فقط علاقات دينية أو تاريخية أو سياسية، بل إنها روابط دم وصلات قرابة تعود لمئات السنين؛ فهناك عائلات سعودية كبيرة متجذرة في صعيد مصر وفي الإسكندرية، كما استقر عدد كبير من الأشراف وأمراء مكة في مصر وذلك منذ القرن السادس عشر.
والسؤال هنا: لماذا لم يوثق التاريخ الشفاهي لتلك العائلات؟ ولماذا لم نعرف عن قصصهم الانسانية ووجودهم في مصر، وقصص المصريين الذين استقروا منذ قرون بالمملكة؟
يكشف الكتاب العلاقة المصرية - السعودية التي توطدت إبان وقوعهما تحت السيادة العثمانية عام 1517م، وكيف كان والي مصر يشرف على تعيين أمراء مكة، وكيف حمت مصر الحجاز من هجمات البرتغاليين، كما كانت تمدها بالغلال ورواتب أشراف مكة التي كانت ترسل مع أمير الحج المصري، والدور الذي لعبته مصر في حل النزاع بين الأشراف على إمارة مكة. ويوضح الكتاب دور الحجازيين في الدفاع عن مصر ضد الحملة الفرنسية، وهو ما كنت أجهله تماما! فلم تأت على ذكره كتب التاريخ التعليمية، حيث دعا محمد الجيلاني المغربي الهاشمي، وكان من أكبر العائلات الحجازية، أهل الحجاز للجهاد والتطوع للدفاع عن مصر فتبرعت النساء بما تملك من حلي وأعد الرجال العدة وبلغ عدد المقاتلين حوالى 7 آلاف مقاتل وفقا للمصادر التاريخية الفرنسية، بينما ذكر الجبرتي أن عددهم كان 2600 حجازي، اشتبكوا مع الأسطول الفرنسي بالقرب من القصير، ومنها ذهبوا للدفاع عن صعيد مصر. وهناك حكايات كثيرة عن التضحيات التي بذلها المصريون والحجازيون في حماية بعضهم البعض، ناهيك عن التاريخ الحديث ودور جلالة الملك فيصل في حرب أكتوبر، والدور التاريخي الكبير لجلالة الملك سلمان في مساندة مصر أمام لعالم كله في أعقاب ثورة 30 يونيو.
وأثناء تجربتي في جمع التراث الشفاهي عن "فيكتوريا كوليدج" في كتاب "كلية فيكتوريا: صناعة الملوك والأمراء والمشاهير" الذي ساندني في نشره المثقف السعودي البارز محمد السيف، وجدت أن أهم الشخصيات المؤثرة في تاريخ المملكة تربت ودرست بها ولهم صداقات وذكريات على أرض الكنانة، من بينهم: الأمير فيصل آل سعود، والشيخ كمال أدهم، رئيس المخابرات السعودية السابق، وهشام ناظر وزير النفط السابق، ورجال الأعمال عدنان خاشقجي، ويوسف عبد اللطيف الجميل، وفيصل السديري، والطبيب الشهير محمد الصيرفي، والمذيع محمد الفوزان.. والقائمة تطول. وأعتقد أنه بداخل كل بيت مصري حكاية عن روابط وعلاقات مع سعوديين، والعكس أيضا، فإذا لم نبدأ اليوم بتوثيق تاريخنا الانساني المشترك، سواء عبر الكتب او الدراما أو السينما، في ظل ما تتعرض له الأمة من تشتيت وطمس للهوية، فمتى سنبدأ؟