سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

لبنان «محكوم بالأمل»

استمع إلى المقالة

ما يحتاجه اللبنانيون هو مجاراة فرحتهم والأمل الكبير الذي سكنهم، بعد أن رأوا ما لم يتحقق في سنتين ونيف، وتركهم نهباً للفراغ، يُنجز مضاعفاً في أربعة أيام، بانتخاب رئيس للجمهورية ورئيس للحكومة، وبدء استشارات نيابية.

قد تكون «خديعة» كما قال نواب «حزب الله»، هي التي أوصلت نواف سلام، أو لعبة ديمقراطية، إنما الأجواء اللبنانية الشعبية تنحو إلى رؤية جديدة، حتى وإن كانت لا تعرف ماهيته. نصدّق ما قاله النائب فيصل كرامي، الذي قرر مع «كتلة التوافق الوطني» اختيار نجيب ميقاتي في العشية، وفي اليوم التالي أتوا باسم نواف سلام. قال كرامي: «نحن مطالبون بالاستماع إلى جمهورنا وقاعدتنا الشعبية التي تعبر عن الحاجة إلى دم جديد، وتغيير، وانفتاح». شرح أن حماسة إضافية بدأت عند الناس، بعد استماعهم إلى خطاب القسم لرئيس الجمهورية عون، بما فيه من وعود رفعت السقف، ولقي استحساناً ورواجاً كبيرين.

يقال إن تيمور جنبلاط، هو الذي دفع والده وليد جنبلاط إلى العدول عن التصويت لميقاتي. جيل بأكمله يريد للمشهد القديم أن يتبدّل، مع أن النتيجة لا تزال ضبابية. هذا يتحدث عنه نواف سلام نفسه في كتابه «لبنان بين الأمس والغد»، الذي يصدّره بمقولة للفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي تقول: «تكمن الأزمة تحديداً في أن القديم يحتضر، بينما الجديد لا يستطيع أن يُولد بعد. وفترة الالتباس هذه بين العتمة والنور، تظهر شتى أنواع الأمراض». في هذه الفترة المملوءة بالعلل الفتّاكة، و«إحدى أخطر مراحل تاريخ لبنان المعاصر»، في رأي نواف سلام، يتحمّل مسؤولياته الحكومية. يضاف إلى الشروخ التقليدية، عارض جديد، ليس له سابق منذ توقيع اتفاق الطائف هو حجب كتلة نيابية وازنة، تمثل طائفة من ثلث سكان لبنان، أصواتها عنه؛ وهو ما يتطلب ديناميكية، وإبداعاً سياسيين لتخطيه.

علق الرئيس نبيه بري على هذه المعضلة بالقول: «لبنان بدو يمشي». فلا يعقل أن يبقى الشعب سابقاً لسياسييه، ومبتكراً للحلول في غياب قيادة إنقاذية، تلتقي في منتصف الطريق.

لا ننسى أنه مع اختفاء التيار الكهربائي بعد أزمة المال، تمكن الناس من توليد الطاقة النظيفة خلال أربع سنوات، بجهود فردية بنسبة فاقت الأربعين في المائة من حجم الاستهلاك. وصل الأمر أن تبيع النساء مصاغهن لتزويد عائلاتهن بالطاقة. الصناعة تركتها الدولة تعاني جور الضرائب وجنون تكاليف الكهرباء، وغلاء المواد الخام، ومع ذلك نهضت وتطورت. كانت المنتجات اللبنانية تشكل 11 في المائة من السوق اللبنانية في زمن العزّ، حيث بلغت اليوم نحو 67 في المائة، من بينها الدواء الذي شكل عبئاً هائلاً على المواطنين مع انهيار نظم التأمين الصحي. تم إعطاء تراخيص لأكثر من 1300 مصنع جديد، والليرة اللبنانية تتهاوى. هل يمكن للدولة أن تبقى غائبة، والناس ينحتون في الصخر، ويبنون بسواعد عارية، ويوفرون للمصرف المركزي الذي شارك في سرقة ودائعهم، أكثر من 1.4 مليار دولار منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2023، خلال أسوأ وأبشع ظرف، كانت فيه الحرب الإسرائيلية الوحشية تحرق لبنان.

مع أن احتياطات «المركزي» قبل ذلك، انخفضت من 34 مليار دولار في أكتوبر 2019 إلى 8.5 مليار منتصف عام 2023.

المبادرات الفردية اللبنانية، جعلت بلداً صغيراً تعرض في فترة قصيرة لا تتجاوز ست سنوات لوباء مدمر، وانهيار مالي، نموذجاً يدرّس في الجامعات لقسوته، كما تعرض لانفجار يقارب «هيروشيما» دمّر ربع العاصمة بيروت، ومن ثم لانهيار الليرة اللبنانية، وفقدان ودائع المواطنين... البعض خسر تقاعده وترك في شيخوخته مهاناً، تبع كل ذلك حرب تدميرية شعواء وتهجير لمليون لبناني من بيوتهم وتفجير لعشرات آلاف البيوت. ولا ننسى أن لبنان كان قبلها تحول مع مليوني لاجئ سوري، إلى أكبر بلد لجوء في العالم، وأكبر بلد في هجرة شبابه وصار مأوى للمسنين.

كل هذا كان كفيلاً بإسقاط دولة كبرى. سمعنا عن تخوف من أناس سيأكل بعضهم بعضاً، ويهاجمون البيوت بسبب شدة الفقر. حكي عن قلق من موجات سطو وقتل، وتشكل عصابات. لا شيء من هذا حدث. صمد اللبنانيون يعضون على الجرح، ويتمسكون بكراماتهم التي لم يبق لهم غيرها، وهم يلملمون جراحهم.

جهاد جماعي، يستحق ممن يمسكون بزمام السلطة، أن ينظروا إليه بعين التقدير مع محاولة للاستفادة منه والبناء. الصناديد الذين عملوا في حقول من جمر ينتظرون من حكامهم فسحة فرج. يقول أحد الشبان الذين يريدون بصيص ضوء ليعودوا إلى البلاد: «منذ توفي الرئيس رفيق الحريري، لم تأتِ حكومة لها رؤية. نعيش منذ عام 2005 في ظل حكومات تصريف أعمال، لا نعرف أهدافها، ولا ما ستوصلنا إليه. حكومات تأتي وتمضي، وكأنما تريد تعبئة الوقت الشاغر». شبان آخرون يستبشرون بالدور الذي لعبه نواف سلام في تأسيس جمعيات مدنية بعد الحرب الأهلية، لعله يخفف من العصبيات الطائفية المستشرية. يريدون حيوية، وحياة، ونقاشاً، وديناميكية. وهذا حقهم!