غالباً ما استُخدمت، في تناول الوضع السوريّ، نظريّة مؤدّاها أنّ الثورة الحقيقيّة هي التي تغيّر مجتمعاً، لا التي تغيّر نظاماً. والنظريّة هذه تبقى أقرب إلى شعار، بمعنى أنّ الشعار يقول كلّ شيء ولا يقول شيئاً. فمن البديهيّ أن تقاس الثورات بمدى تغييرها العلاقات الاجتماعيّة والأفكار والثقافة والتعليم ومسائل الجنس والجندر، ومن ثمّ النظرة إلى الذات وإلى العالم. لكنْ هل يكون هذا ممكناً دون تغيير النظام السياسيّ كشرط ضروريّ غير كافٍ، خصوصاً أنّنا لا نتحدّث عن دول تحترم استقلال المجتمع المدنيّ وخصوصيّته وتمتنع عن التدخّل في عديد العمليّات الاجتماعيّة والثقافيّة. وما دام الكلام عن سوريّا تحديداً فإن ذاك الجهاز الأسديّ المسمّى دولةً كان دوماً مشهوراً، وأكثر من أيّ شيء آخر، باثنين: بتدخّله في الشاردة والواردة من حياة مواطنيه اجتماعاً وتعليماً، بل تواصلاً بأبسط معاني كلمة التواصل، كما بالعقاب الوحشيّ الذي يُنزله بالمواطنين الذين لا يمتثلون لمعاييره المفروضة. ولوحات الموت التي رأيناها في صيدنايا وسواها باتت أبلغ من كلّ كلام.
لهذا كان من المشروع تماماً أن تُقرأ نظريّة «تغيير المجتمع لا تغيير النظام» بوصفها محاولة للتهرّب من الإسهام في تغيير النظام، وبالتالي علامة على عدم اكتراث فعليّ بتغيير المجتمع.
في المقابل، فإنّ سوريّا ما بعد إطاحة بشّار باتت تطرح على السوريّين وعلى المعنيّين بشأنها مشكلة من نوع آخر: ماذا حين يطاح النظام ولا يبدأ تغيير المجتمع، أو يجد المجتمع نفسه، وفق ما يرى سوريّون كثيرون، مهدّداً باحتمال التغيّر إلى الأسوأ؟
هنا قد تواجهنا نظريّة نقيض للنظريّة الأولى، مفادها اعتبار أنّ تغيير النظام كافٍ بذاته، وأنّه يغني عن تغيير المجتمع، أو بلغة أدقّ، عن إتاحة الحرّيّة للسكّان كي يغيّروه بأنفسهم وعلى هدي تجربتهم وطموحاتهم.
والحال أنّ النظريّتين يجمع بينهما اتّفاقهما، ولو من موقع الضدّ، على تجزئة معنى الثورة، ومن ثمّ الاستعاضة عن الكلّ بالجزء. لكنّهما تشتركان أيضاً في أنّ كلّاً منهما تخدم وضعاً سلطويّاً قائماً، ضدّاً على رغبة الراغبين في إزالته. وهذا فضلاً عن صدورهما عن مقدّمات أهليّة نزاعيّة ليس صعباً تقصّي أسبابها. فالنظريّة الأولى كانت تقليديّاً ترى في العلمانيّة ما يغيّر المجتمع، فتحمّست لها ولافتراض أنّها، من خلال تحييدها الدين، تمحو الفارق بين أكثريّة وأقلّيّات. وبدورها فالنظريّة الثانية ذهبت تقليديّاً، وتذهب، إلى أنّ الخلاص تضمنه صيغة حكم شعبويّة، شبه ديمقراطيّة أو غير ديمقراطيّة، إلاّ أنّ العدد الأكثريّ هو ما يتحكّم بمسارها، محدّداً طبيعة «الضمانات» و»التطمينات» التي تُقدّم للأقلّيّات.
وما يمكن قوله اليوم إنّ إسقاط النظام بات يفتح الباب للمهمّة المديدة، الصعبة والمعقّدة، التي هي «تغيير المجتمع». وهنا يحتلّ الصراع الثقافيّ موقعاً متصدّراً بحيث تُستعرض وتشتبك الآراء المتباينة حول السوريّا التي يريدها السوريّون. فما كان يبدو سابقاً «ثقافويّة»ً تضع الثقافة حيث ينبغي أن تكون السياسة، وتدعو إلى تغيير المجتمع تهرّباً من تغيير النظام، لم يعد كذلك. وأغلب الظنّ أنّ مسائل كالحرّيّات الشخصيّة والعامّة، وعلاقة الدين بالسياسة، وأوضاع المرأة، وكتابة التاريخ ومناهج التعليم، ستطرح نفسها بحدّة، ومعها خصوصيّات الجماعات السوريّة طوائفَ ومناطق وإثنيّات. يعزّز هذا الميل أنّ قوى «القوميّة» و»المقاومة» على أنواعها تعرّضت، في سوريّا كما في عموم المشرق، لضربات مميتة، ما يزيح «قضايا المصير» التي لا تُحلّ عن كاهل المسائل المجتمعيّة والثقافيّة التي تُحلّ.
وبالطبع فأولئك الذين سيخوضون هذه المعركة اليوم لا يمتّون بصلة إلى أصوات من دعوا بالأمس إلى تغيير المجتمع دون تغيير النظام. فهؤلاء أبناء ثورة 2011 وبناتها ممّن دفعوا غالياً ثمن محاولتهم تغيير النظام ليجدوا أنفسهم الآن مواجَهين بمهمّة تغيير المجتمع.
وقبل أن يكون مدار المسألة الملحّة راهناً مدّة الثلاث سنوات والأربع سنوات لإعداد الدستور وإجراء الانتخابات، فإنّ مدارها هو المناخ الذي سيسود هذه السنوات الثلاث أو الأربع. فهل سيُتاح المجال لجوّ حرّ وسلميّ للانطلاق في مسيرة هذا التغيير، أي للتنظيم وبناء الروابط والأحزاب وعرض الأفكار، أم أنّ القمع هو ما سيواجه السوريّين الطامحين إلى تغيير يتعدّى تغيير النظام؟
واقع الحال أنّ المعركة الجديدة، في ظلّ أزمة اقتصاديّة طاحنة وبعثرة سكّانيّة وتفاوت بين الأوضاع السياسيّة للمناطق، فضلاً عن البناء على العدم السياسيّ الذي خلّفه النظام الساقط، لن تكون بالأمر السهل. فوق هذا، لم تترك حدّة القمع على مدى عقود للنضالات المجتمعيّة والثقافيّة ما كان يمكنه أن يكون تأسيساً صلباً أو تراكماً أوّليّاً يُعتدّ به. مع هذا فإنّ أيّ منع أو إعاقة يفرضهما النظام الجديد سيكونان تمهيداً لتنازع يُرجى لسوريّا الجديدة أن تنجح في اجتنابه. فإمّا أن يتيح الوضع الناشىء خوض صراع حول المجتمعيّ والثقافيّ، يحلّ العمل السلميّ فيه محلّ العسكريّ، أو أن يغدو الخراب أفقاً شديد الاحتمال.