جرى في رحاب الجامعة الأورومتوسطية في فاس، التي أنشأتها دول الاتحاد من أجل المتوسط البالغ عددها 43 دولة، الافتتاح الرسمي لكرسي تحالف الحضارات الذي لنا شرف ترؤسه، وهو أول كرسي في العالم يُنشئه تحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة. وقد تم هذا الافتتاح بحضور 1800 شخص. وتناول الكلمة في هذا الافتتاح كثير من الشخصيات العالمية بمن فيهم السيد أنخيل ميغيل موراتينوس، الممثل السامي لتحالف الحضارات التابع للأمم المتحدة، والسيد جوزيف بوريل الممثل السامي للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، وكثير من ممثلي المنظمات والمؤسسات الدولية بما في ذلك «اليونسكو» و«الفاتيكان» و«الإيسسكو» و«الأمم المتحدة»، وكثير من رجالات الدين والخبراء الدوليين.
وإنشاء هذا الكرسي العالمي في مدينة فاس وفي الجامعة الأورومتوسطية، ينطلق من القناعة بالدور التاريخي الذي اضطلعت به مدينة فاس بوصفها عاصمة لتحالف الحضارات والتنوع الثقافي، والدور التاريخي الذي اضطلعت به أقدم جامعة في العالم، وهي جامعة القرويين، التي أسَّست للقيم الإنسانية والحضارية عبر القرون.
العالم ليس بخير. فهو غير مستقر وفيه مناطق تُنذر بويلات متتالية في الشرق الأوسط وفي أوروبا وأفريقيا؛ وازداد عدد الفاعلين في البيئة الدولية المعقدة، وأضحت قواعد الأنانية والغدر والمجهول، وقوانين القوة، وازدواجية المعايير، وتآكل قيمة المنظمات الدولية التي أُنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، والتوجس... سمات تطبع النظام العالمي. وأصبح الفاعلون -حسب تعبير السيد جوزيف بوريل- في افتتاح كرسيّ تحالف الحضارات، يستعملون التجارة والاستثمار والمصالح الاستراتيجية الداخلية والتنقل والخدمات مثل weaponize، أي أسلحةً في العلاقات الدولية الجديدة. كما أن الديمقراطية الغربية التي تباهى بها الغربيون لعقود ونظَّر لها الفلاسفة ورجالات السياسية والكتاب، بدأت تنكمش لصالح قواعد سلطوية وبطركية جديدة، كما هو الحال في كثير من دول أوروبا.
وضعت أزمتا أوكرانيا والشرق الأوسط النظامَ العالميَّ كما سطره ميثاق الأمم المتحدة مباشرةً بعد الحرب العالمية الثانية في غيابات الجب؛ ورجعت مبادئ «الانعزالية» في السياسة الخارجية الأميركية التي تتجاوز قواعد «عملية الحكم» التقليدي، وستتبنى لسنوات مصلحة «الدولة أولاً» بوصفها قاعدة أسمى في الداخل والخارج، مما يجعل الحلفاء الاستراتيجيين لأميركا في أوروبا والفاعلين في حلف الناتو في وضعية صعبة.
كل هذا أفقد مسألة الثقة بين الفاعلين الدوليين وداخل النظام العالمي وفي قواعد التجارة العالمية والاقتصاد العالمي وداخل المجتمعات... ومن هنا موضوع المؤتمر الدولي الذي عقدناه على هامش افتتاح كرسي تحالف الحضارات من طرف الأمم المتحدة، وأعطينا له عنوان «إعادة بناء الثقة من أجل عالم واحد ومتنوع» وذلك من خلال الإيمان بقدرة الفعل الجماعي على استعادة الثقة في المستقبل، وتوطيد الثقة داخل المجتمعات وإحياء الثقة أساساً لا يُعلى عليه في مجال التعاون بين الأمم.
لا يمكن تشخيص النظام العالمي بهذه السوداوية وعدم القيام بأي شيء. لا بد من النظر إلى مستقبل الأجيال وإعادة بناء الثقة والسير بها على أنها محدِّد في البيئة الدولية وداخل المجتمعات ومنظومات التربية والتكوين. لا بد من إصلاح العوائق التي تجعل من مبادئ التعايش السلمي مسألة صعبة. لا بد من وضع حلول للقضاء على الفوارق الاجتماعية والأزمات التي تجعل العيش الآمن لملايين البشر مسألة صعبة. لا بد من التأثير في السياسات التي هي كلها من صنع البشر والتي تجعل صناعة الحاضر والمستقبل كلها مخاطر ومخاوف. لا بد من إصلاح السوابق المعرفية التي تؤطِّر وتسيِّر الأذهان وسلوكيات الإنسان. لا بد من تكوين جيل يؤمن بقواعد سموِّ القانون الدولي المتوازن ذي المصداقية والواقعية ويطبقه في الواقع. لا بد من شراكات متكافئة ومن علاقات متوازنة ومن النِّدِّيَّة.
ولهذه الأسباب، جعلنا كرسي تحالف الحضارات يقوم بمجموعة من التكوينات الجامعية المختصة في مجال تحالف الحضارات. وهو ما أنشأ مسالك للماجستير متخصصة في مجال حل النزاعات الدولية يدرس فيها طلبة من كثير من دول العالم، ويدرس فيه قضاة دوليون وممثلون ساميون لبعض الهيئات الدولية وجامعيون وخبراء ومختصون عالميون يؤمنون بقواعد العيش المشترك. كما أن له مدرسة للدكتوراه يتابع فيها طلبة من مختلف الجنسيات يُعِدُّون الأطروحات في مجال تحالف الحضارات والحل السلمي للنزاعات. كذلك يقوم بعملية التكوين والاستشارة وتنظيم دورات تكوينية ومنتديات دولية والدفع بشباب العالم إلى التنظير الإيجابي والتأثير في مستقبل العالم.
هذا الكرسي يؤمن بأن تحالف الحضارات وحل النزاعات بطريقة ذكية وواقعية ضرورة حتمية وواجب أخلاقي وإنساني، وهو تعبير أصيل عن أبرز قيم الحضارة العالمية وسمات الشخصية الإنسانية المتوازنة؛ ويفتح ذلك المجالَ واسعاً أمام تفاهم الشعوب والجماعات، ويؤدي إلى تقارب الحضارات وتلاقحها... وهو اختيار العقلاء، وسبيل يسلكه الحكماء، ومسؤولية إنسانية مشتركة يتحملها جيلنا والأجيال المقبلة لبناء بيت مجتمعي واحد ومتنوع.