عشنا نسمع ونشاهد فقدان الاتصال بين المذيع والضيف على الشاشة، ولكننا صرنا نسمع عنه في جنوب لبنان مرة وفي إيران مرة ثانية.
وهناك فارق بين الحالتين طبعاً، لأن الاتصال الذي كان ينقطع بين المذيع وبين ضيفه سرعان ما كان يعود بعدها بدقائق في أغلب الحالات. أما فقدان الاتصال في جنوب لبنان وفي إيران، فلا يبدو إلى لحظة كتابة هذه السطور على الأقل أنه سيعود.
في البداية فقد «حزب الله» في الجنوب اللبناني اتصاله مع هاشم صفي الدين، قيادي الحزب المرشح لخلافة حسن نصر الله، وقد مضت أيام على إعلان الحزب عن ذلك، من دون أن يُقال شيء عما يعنيه فقدان اتصال من هذا النوع، ولا عمّا إذا كان صفي الدين المختفي سيعود، ولا نعرف في الحقيقة ما إذا كنا أمام فقدان اتصال حقيقي، أم أنه نوع من التمويه من جانب قيادة الحزب أمام جهاز مخابرات إسرائيل الشهير بالموساد.
لا تعرف ولا تستطيع أن تقطع بشيء نهائي، ولكن الأيام وحدها كفيلة بأن تزيل هذا الغموض الذي صار سمة لأشياء كثيرة في منطقتنا التعيسة، وإذا كانت الرواية الإسرائيلية قد جاءت لتقول بمقتل صفي الدين، فرواية الحزب في المقابل لا تزال غائبة.
وما كادت أيام قليلة تمر على الحديث عن فقدان الاتصال بصفي الدين، حتى تردد حديث آخر عن فقدان إيران اتصالها بإسماعيل قاآني، قائد «فيلق القدس»، الذي كان قد سافر إلى لبنان في أعقاب اغتيال حسن نصر الله نهاية الشهر الماضي. هنا نجد أنفسنا أمام شخص إيراني من الوزن الثقيل، لأنه الشخص الذي جاء في مكان قاسم سليماني بعد اغتياله في 2020.
كان اصطياد سليماني في وقته بمثابة عملية اصطياد ديك رومي كما يقال في لغة أجهزة الاستخبارات عندما يكون الشخص الذي جرى اصطياده ذا وزن. صحيح أن قاآني لم ينجح في رسم هالة من حوله مثل التي كان سليماني قد رسمها من حوله، ولكن قاآني يجلس في النهاية أو كان يجلس على رأس «فيلق القدس» بكل ما يقال عن إمكاناته.
وقد جاءت أوقات في مرحلة ما بعد اغتيال نصر الله جرى فيها استخدام عبارة «فقدان اتصال» بكثرة، وفي كل المرات كان الحديث عن فقدان الاتصال بقيادات في الحزب، غير أن الفقدان الأكبر كان طبعاً بصفي الدين ومن بعده قاآني. ومن طول استخدام العبارة، فقد راحت تتردد من دون أن ننتبه إلى أنها صارت وكأنها موضة في موسم اصطياد القيادات في «حزب الله»، وربما في «فيلق القدس»، ولكن بدرجة أقل بطبيعة الحال.
الكلام حول قاآني بالذات متضارب، ويقال عنه الشيء وعكسه، وإلى أن يتبين مدى فقدان الاتصال بقيادي الحزب وقيادي الفيلق، وما إذا كان فقداناً نهائياً، أم أنه فقدان مؤقت يرتبط بظروفه، أم أنه تمويه وتعمية، فسوف يكون علينا أن نتوقف أمام فقدان اتصال على مستوى آخر في الحالتين الإيرانية والجنوب لبنانية.
سوف يكون على «حزب الله» أن يقفز فوق فقدانه الاتصال بالقيادي المرشح، وأن ينتبه إلى أنه فقد الاتصال منذ فترة طويلة بالدولة اللبنانية ذاتها، وسواء كان المقصود بالدولة اللبنانية هنا الحكومة أو الشعب اللبناني، ففقدان اتصال الحزب بالحكومة وبالشعب كان واحداً، ووقوفه في طريق الحكومة والشعب لم يكن يختلف.
فقد الحزب اتصاله بلبنان الحكومة والشعب، ففقد الاتصال بجذوره التي لم يكن له لينفصل عنها، إلا إذا كان النبات يمكن أن ينفصل عن جذوره ثم تُكتب له الحياة.
وفقدت إيران اتصالها بالمنطقة من حولها، قبل أن تفقد اتصالها بقائد «فيلق القدس»، وما يقال عن الحزب هناك في لبنان يقال هنا عن إيران بالنسبة للمنطقة. كانت الحكومة الإيرانية تفاوض إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما على برنامجها النووي، وكانت في الوقت نفسه تأبى أن تفاوض حول سياستها في الإقليم أو أذرعها فيه، وكانت ترفض أن تصدق أو حتى ترى أن إقليمها أبقى لها من برنامجها النووي، لأن مثل هذا البرنامج متغير ومتحول، ويخضع لما تخضع له المتغيرات والمتحولات، ولكن الإقليم ثابت ثبات الجغرافيا.
تعرف الحكومة الإيرانية أن القوى الفاعلة في العالم لن تمرر برنامجها النووي، وإذا كانت هي تطرق بابه من سنين، فليس معنى ذلك أنها سيُسمح لها بالدخول، ومع الفارق فإن الأمر يشبه حالة تركيا التي تدق باب الاتحاد الأوروبي، بينما تعرف أنها ربما تقضي العُمر وهي تدق الباب. ولقد استنزفت إيران نفسها جرياً وراء برنامجها إياه، وكانت تستنزف معها المنطقة والإقليم.
الأهم من معاودة الاتصال بقائد «فيلق القدس»، أن تتواصل إيران بمنطقتها وإقليمها بجد، والأهم من معاودة «حزب الله» اتصاله بصفي الدين إذا كان لا يزال حياً، أن يتواصل الحزب بجد أيضاً مع لبنان الحكومة والشعب، ولا يكون عبئاً عليهما.