الديمقراطية في ليبيا «تتدلى» من حالة الأميّة طويلة الأمد، وحالة التيه في التطبيق، وتغييب العمل الحزبي، لأكثر من 60 عاماً، حيث حُظرت الأحزاب حتى من قبل زمن القذافي الذي جَرّم الأحزاب بشعار «من تَحَزَّبَ خان»، مروراً بحالة التيه السياسي، وانتهاءً بالعبث السياسي... وجميعها استخدمت «الديمقراطية» عودَ كبريت يشتعل مرة واحدة، وبمفهومها الخاطئ... حتى وصلنا إلى درجة الورقة التائهة في صندوق انتخابات رئيس «مجلس الدولة»، وهو الكيان المتمدد بغير شرعية والمنبثق عن «المؤتمر الوطني» منتهي الولاية، وقد تسببت في صراع كراسي «ديمقراطي» جديد نشأ في ليبيا، التي تفتقر إلى ثقافة الديمقراطية؛ بل إلى أبسط أبجدياتها، والدليل ما يجري فيها من عبث باسم الديمقراطية منذ بضع سنين، ليكتمل المشهد بمسرحية «الورقة المقلوبة» أو «الملغاة» في التي تُسمى «انتخابات رئيس مجلس الدولة»، بين رئيسيه؛ الحالي محمد تكالة، والسابق خالد المشري، اللذين وظيفتهما تأخير الانتخابات والضحك على الليبيين وإهدار المال عبر كيان لا نفع من وجوده لليبيين، ولا يفعل سوى عرقلة الحياة السياسية وابتزاز الحكومات.
ظهرت الورقة التي «قصمت ظهر البعير» في جلسة انعقدت بمشاركة 139عضواً، في جولتين انتهتا بحصول رئيس المجلس السابق على 69 صوتاً، والرئيس الحالي على 68 صوتاً، ولكن بطلت ورقة تصويت أحد الأعضاء بسبب مخالفتها شروط التصويت، حيث تُبطل لائحة المجلس أي ورقة تحمل «أي علامة تعريف أو تمييز»، وبذلك يصبح المشري متقدماً على تكالة بصوت واحد، إذا أُبطلت الورقة المخالفة، رغم أن بطلان «الورقة الجدلية» أمر صحيح يستند إلى لائحة المجلس الواضحة؛ لأنها تميزت عن بقية الأوراق الأخرى، وبسببها اندلع خلاف بين الأعضاء مطالبين بإسقاط الورقة المخالفة من العدّ، بينما طرف آخر طالب باحتسابها لأنها تجعل الطرفين متساويين في عدد الأصوات؛ مما يفتح الباب أمام جولة ثالثة قد يشتغل فيها المال الفاسد لحسم النتيجة.
القضية ليست في مَن سيحكم مجلس الدولة؛ السيد تكالة الرئيس الحالي، أم المشري الرئيس السابق، ولكن القضية التائهة هي الكيان نفسه غير الشرعي أصلاً، وليست مشهد ورقة التصويت المختلَف على احتسابها، فكلا الرجلين جُرّب وفشل في إدارة الأزمة السياسية في ليبيا، وفي أن يكون جزءاً من الحل؛ بل على العكس؛ كانا أشد تطرفاً وعناداً ومكابرة في صناعة الخلاف والتمترس خلف الفرعيات دون الأصول، مما تسبب خلال عهديهما في استمرار الخلاف والتناطح مع البرلمان المنتخب شعبياً، أما مجلس الدولة؛ سواء أكان برئيس أم من دونه، فهو والعدم سواء في منفعته لليبيا وشعبها. فمجلس الدولة هو موطن إنتاج الصراع السياسي في ليبيا، فهو في البدء كيان غير منتخب، جاء نتيجة ولادة اتفاق سياسي شَرْعَنَ استمرار بقايا أعضاء «المؤتمر الوطني»، وأغلبهم من تيار الإسلام السياسي، ولهذا يعدّ مجلس الدولة، من رئيسه إلى أبسط عضو فيه، برلماناً إخوانياً يمثل تيار «الإخوان» وليس الليبيين. وهذه حقيقة للأسف تسببت فيها بعثة الأمم المتحدة بعدم خلق توازن سياسي في تركيبة مجلس الدولة، حيث نص «اتفاق الصخيرات» على أن يتكون هذا الكيان من عدد من أعضاء «المؤتمر الوطني العام»، وحينها كانت هناك «كتلة الوطنيين» بـ94 عضواً، وقد انسحبت من «المؤتمر الوطني»، فاستغل تيار الإسلام السياسي الفرصة وشكل مجلس الدولة من غير «كتلة الوطنيين» في «المؤتمر الوطني»، وأصبح جميع أعضاء «المؤتمر الوطني» طيفاً سياسياً واحداً، وجميعهم يبايعون المرشد والإسلام السياسي.
الخلاف على ورقة تصويتية في الانتخابات، ومسألة بطلانها من صحتها، مجرد مسرحية لإظهار الكيان الغاصب للسلطة على أنه كيان ديمقراطي وأنه يجري تداول السلطة، بينما واقعه أنه كيان جاء إلى السلطة من دون انتخابات، فلا هو منتخب ولا هو شرعي، بحكم انتهاء مدة الاتفاق السياسي الذي جاء به، فهو كيان فاقد الأهلية والصفة الاعتبارية والشرعية، حتى بحكم انتهاء مدة الاتفاق السياسي.
مجلسُ الدولة، صاحبُ بدعة الخلاف على ورقة انتخاب رئيسه اليوم، جاء نتيجة «اتفاق الصخيرات» السياسي الذي كُتب بحبر إخواني، وتآمر دولي، لإعادة تدوير وتوطين جماعات الإسلام السياسي بعد خسارتهم الانتخابات الحرة في ليبيا، وقد أصبح بعد مرور هذه السنوات العقبة الحقيقية أمام استقرار ليبيا. مخرجات «الصخيرات» كانت متعثرة التطبيق واختُرقت في أكثر من بند، وأصبحت صعبة في ظل كثير من خروقات نص الاتفاق، ومنها ما يسمى المجلس «الأعلى» للدولة، الذي تشكل وضم طيفاً واحداً؛ هو تحالف الإسلام السياسي، وليس مَن تكوّن منهم «المؤتمر الوطني» في أول انعقاد له خلال يوليو (تموز) 2012، في خرق ومخالفة صريحة لنص «اتفاق الصخيرات»، بل إنه تجاوز دوره الاستشاري إلى ممارسة التشريع، بل حتى منازعة البرلمان الشرعي المنتخب اختصاصاته.
لا بد من إنهاء الوضع السياسي الشاذ في ليبيا إذا أردنا حل الأزمة وإخراج ليبيا من دائرة العبث والابتزاز وارتهان الحياة السياسية؛ المختطفة من قبل مجالس سياسية انتهت ولايتها السياسية منذ 10 سنوات ولا تزال تراهن وتتمسك بالبقاء بحجج وأعذار واهية، الهدف الرئيسي منها هو منع الانتخابات؛ للبقاء في السلطة.
صحيح أن ليبيا تخلصت من حالات الحروب والاقتتال بالسلاح، وسكتت المدافع والبنادق، لكنها تعيش ملهاة عبثية من «الديمقراطية التائهة»؛ بسبب حالة الأميّة الديمقراطية التي تعيشها البلاد، في ظل حالة من التيه السياسي، تسببت في إهدار المال العام، والتضخم الاقتصادي وانهيار قيمة الدينار، وغلاء معيشة المواطن؛ الضحية الأولى في أي صراعات مسلحة أو حتى «ديمقراطية» ولو كانت عرجاء.