بدأت صناعة الغاز الطبيعي في المنطقة البحرية لحوض شرق المتوسط في مصر منذ أوائل عقد الثمانينات، عندما قررت السلطات المصرية احتساب نفس القيمة المالية لبئر الغاز لاكتشاف بئر النفط، على عكس ما كان يجري سابقاً، وهو إغلاق فوهة بئر الغاز عند الاكتشاف. وسبب ذلك هو عدم توسع صناعة الغاز عالمياً، حتى عقد السبعينات، وعدم الاستفادة من الغاز اقتصادياً في حينه.
كانت أسواق الغاز الكبرى في حينه منحصرة في ثلاث أسواق: الأميركية والروسية، حيث تميزت هاتان الدولتان باحتياطيات غازية ضخمة، واعتمدت كل منهما على شبكات أنابيب وطنية ضخمة لتزويد الدولتين واسعتي المساحة. كما جرت مفاوضات جيوسياسية مهمة بين الأقطار الأوروبية والاتحاد السوفياتي سابقاً في منتصف عقد الثمانينات لتزويد أوروبا بكميات ضخمة من حقول غاز غرب سيبيريا عبر شبكات أنابيب طويلة المدى. عارضت الولايات المتحدة هذا المشروع من يومه الأول لرفضها جيوستراتيجياً اعتماد الاقتصاد الأوروبي على الغاز الروسي، وعدم تمكنها في حينه (منتصف الثمانينات) من تزويد أوروبا بالغاز المسال في حال توقف الغاز الروسي. رغم ذلك، فقد مضى الطرفان الروسي والأوروبي في التوقيع على اتفاقات طويلة المدى والالتزام بها حتى نشوب حرب أوكرانيا قبل عامين تقريباً.
واضطرت اليابان، الدولة الصناعية التي تفتقر إلى المصادر الهيدروكربونية، والبعيدة جداً عن مصادر إنتاج الوقود الأحفوري، إلى الاعتماد على استيراد الغاز المسال من إندونيسيا. لكن بعد استنزاف الحقول الإندونيسية ونضوبها، بدأت استيراد الغاز المسال من أبوظبي، ومع تطوير قطر حقل الشمال ونمو واحدة من كبرى صناعات الغاز المسال عالمياً، بدأت اليابان تستورد كميات ضخمة سنوياً من الغاز المسال القطري.
من جانبها، بدأت السعودية في أوائل الربع الأخير من القرن العشرين تبني مشروعاً ضخماً لتجميع الغاز المصاحب واستعماله في الصناعات المحلية.
جدير بالذكر أن أول محطة تسييل غاز في العالم كان قد دشنها الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلّا بُعيد الاستقلال عام 1964، حيث تم تصدير أول شحنة غاز مسال عالمية من مصنع «كامل» الصغير في «أرزو» إلى بريطانيا.
من الواضح أن تجارة واستهلاك الغاز عالمياً قد تأخرت عقوداً بعد صناعة النفط. والسبب الرئيسي لذلك هو السعر المنخفض جداً للنفط الخام خلال النصف الأول للقرن العشرين. وقد تغيَّرت أسس الصناعة النفطية عالمياً، نتيجة مفاوضات منظمة «أوبك» مع الشركات العالمية في أوائل عقد السبعينات، حيث حازت الأقطار المنتجة قرار تحديد معدلات الإنتاج، وحيث أيضاً ارتفعت أسعار النفط الخام من نحو 1 - 4 دولارات للبرميل إلى نحو 30 - 40 دولاراً للبرميل خلال عقد السبعينات، الأمر الذي دفع مصر ودولاً أخرى إلى بدء استهلاك الغاز بشكل واسع نظراً لمنافسة سعره سعر النفط.
بدوره، أدى نمو استهلاك الغاز إلى بروز صناعتين لتصديره: عبر شبكات الأنابيب البرية ونقله عبر دول ثالثة (ترانزيت)، ومعالجة الغاز لتصديره مجمداً لنقله في ناقلات متخصصة عبر البحار والمحيطات.
من ثم، في حين ابتدأت صناعة النفط عالمياً منذ العقد الأول للقرن العشرين، لم تبدأ صناعة الغاز في الانطلاق حتى الربع الأخير من القرن العشرين. وما ساعد على توسع انتشارها في أوائل القرن الحادي والعشرين هو ازدياد الاهتمام العالمي بشؤون البيئة وتغير المناخ، نظراً إلى انخفاض الانبعاثات الكربونية من الغاز. فتوسُّع الاهتمام بالبيئة والتغير المناخي أدى بدوره إلى إعطاء زخم جديد للصناعة، حيث أصبح الغاز الوقود الرئيسي لتغذية محطات الكهرباء وتحلية المياه عالمياً، نظراً لتنافس سعره مع سعر الفيول أويل، الذي كان يشكل هو والفحم الوقودين الرئيسيين لتغذية محطات الكهرباء.
ونظراً إلى المناطق الإنتاجية الموعودة، أعلنت مصر عن طرح الامتيازات في خليج السويس، والصحراء الشرقية، والبحر الأحمر، والصحراء الغربية، في محاولات متعددة لاكتشاف الغاز. ثم بدأت تركز اهتمامها على منطقة دلتا النيل والمنطقة البحرية شمال الإسكندرية وبورسعيد. كما عدَّلت مصر من شروط اتفاقاتها مع الشركات الدولية، نظراً لعمل الأخيرة في مناطق بحرية عميقة. وبالفعل اكتُشفت حقول غازية عملاقة بنهاية القرن الماضي، وبداية القرن الحالي. تبنَّت مصر سياسات بعيدة المدى على ضوء الاكتشافات التي حققتها: زيادة إمكانيات استهلاك الغاز داخلياً وإعطاء الاستهلاك الداخلي الأولوية في توزيع الإمدادات. كما تبنَّت مصر سياسة إمكانية التصدير إلى أوروبا، إما عبر خط الغاز العربي –عبر تركيا إلى أوروبا- وإما تشييد محطات لتسييل الغاز، بالتعاون مع الشركات الدولية.
واجهت مصر مشكلة مستدامة في كيفية الموازنة بين التصدير والاستهلاك الداخلي، من جهة؛ ومن جهة أخرى الموازنة بين الزيادة السنوية للاستهلاك الداخلي والإنتاج المحلي، من جهة أخرى، نظراً لزيادة المجالات التي يتم فيها استهلاك الغاز والزيادة السنوية العالية لعدد السكان الذي يفوق 100 مليون نسمة. وقد تم تلافي هذه المشكلة باكتشاف شركة «إيني» حقل «ظُهر» العملاق عام 2015 وتطويره لبدء الإنتاج منه عام 2017. و«ظهر» هو أضخم حقل غاز في مصر والبحر الأبيض المتوسط، وأصبح عماد الصناعة الغازية المصرية.
سجل الإنتاج الغازي المصري ارتفاعاً سنوياً مستمراً، مدعوماً بالإنتاج من «ظهر» والحقول الصغيرة الجديدة. وبلغ معدل الإنتاج في 2021 نحو 2.45 تريليون قدم مكعبة، منها إنتاج «ظهر» نحو تريليون قدم مكعبة سنوياً، حسب الشركة المشغِّلة للحقل (إيني).
اضطرت «إيني» خلال السنوات الثلاث الأخيرة إلى تخفيض إنتاجية «ظهر»، نظراً لانخفاض الضغط في الحقل. ونظراً لمركزية الحقل في صناعة الغاز المصرية، مما اضطر السلطات المصرية هذا العام إلى استيراد كمية من الغاز المسال الأميركي، لاستعماله في تغذية محطات الكهرباء المحلية في أثناء فصل الصيف، حيث يزداد الطلب عادةً على الاستعمال العالي لوسائل تبريد الهواء. الأمر الذي أثار كثيراً من الأسئلة حول صناعة الطاقة المحلية. لكن، في الوقت نفسه يُتوقع أن تزيد شركة «شل» إنتاجها البحري من حقل «خوفو» الذي هو تحت التطوير حالياً، حيث حفرت ثلاث آبار، ويُنتظر حفر ثلاث أخرى للحصول على صورة شمولية لحجم احتياطي «خوفو». وتشير المصادر النفطية إلى أنه في حال عدم وجود «خوفو» حقلاً ضخماً، فبإمكان «شل» الإنتاج من عدة حقول صغيرة بالقرب من «خوفو»، وربطها بشبكة «خوفو». بهذا يصبح من الممكن تعويض الانخفاض في «ظُهر» ابتداءً من 2024.