د. آمال موسى
وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة في تونس سابقاً وأستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي.
TT

الخطة الإسرائيلية واضحة والعالم يتدرج في الغموض

استمع إلى المقالة

رغم مرور أكثر من نصف سنة على انطلاق الحرب في غزة وقتل الآلاف من الفلسطينيين، فإن آلة القتل والتنكيل ضد أهالي غزة تواصل عملياتها من دون تردد أو تراجع في وتيرة القتل والإصابات. وإذا كان ما حدث في 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 صادماً فإن الصدمة الأكبر تكمن في استمرار هذه الحرب الغاشمة التي عرفت كل أنواع التجاوزات دفعة واحدة.

السؤال هو: هل خطة إسرائيل واضحة؟

نطرح هذا السؤال أمام تردد المواقف الدولية في اتخاذ قرارات تتماشى ووضوح الخطة الإسرائيلية. ففي هذه الحرب، الأطفال والنساء أكثر من نصف القتلى. وفي هذه الحرب أيضاً تم قصف مستشفى للأطفال. وتم الاعتداء على قافلة إنسانية. وفي هذه الحرب تم التجويع بهدف الإذلال والموت، وأيضاً أصبحنا نتحدث عن مقابر جماعية، وقبل ذلك عن تهجير الفلسطينيين.

لذلك فإن كل هذه الأفعال الواضحة جداً إنما تؤكد أن إسرائيل تريد كل الأرض وعازمة على إخلاء غزة من الفلسطينيين، سواء استدعى الأمر التهجير أو التجويع أو القتل، فكل هذه الآليات تؤدي إلى هدف واحد ويخدم الخطة الواضحة كل الوضوح.

ما يؤكد أهداف إسرائيل ليس أفعالها ولا حتى خطابها الصريح بل منطق الحال: الواضح جداً أن إسرائيل لا تضع سيناريو ما بعد الحرب. أي أن ما بعد الحرب هو إسرائيل فقط ولا وجود حسب خطتها لغزة ولأهالي غزة. وبصراحة شديدة كل هذا كان واضحاً من الأيام الأولى للحرب وقالته إسرائيل كلاماً وأفعالاً.

ولكن العالم من شدة وضوح الخطة فإنه انتقل من غموض شديد إلى غموض أقل، أي أنه كان يتدرج بالغموض ببطء شديد.

طبعاً ندرك جيداً أن الأمر معقد والسياقات مركبة، وهذا بدوره ليس جديداً، لأن تاريخ إسرائيل ذاته قائم على جعل علاقات العالم معها معقدة بشكل أنه يصعب الوقوف في وجهها. وعرفت إسرائيل على امتداد تاريخها كيف تجعل من التفريط فيها موجعاً إلى حد الاستحالة بالنسبة إلى الدول التي مصالحها معها أساسية وفاعلة ومؤثرة إلى حد قوي.

فهل يعني هذا القبول بحدوث جريمة ضد شعب وتقتيل النساء والأطفال وتهجير الصاحب الحقيقي للأرض وإقامة المقابر الجماعية، إذ إن العالم الجديد يؤسس منذ أجيال لثقافة حقوق الإنسان ويراكم المجهودات من أجل مناهضة العنف ضد النساء والأطفال، ويؤسس لتنمية مستدامة لا جوع بعدها ولا فقر؟ لقد دخلنا في مرحلة الانتقام الذاتي وأذى الإنسانية لنفسها بنفسها.

لقد قبلت الشعوب على مضض عدم حياد الدول الكبرى مع إسرائيل وابتلع العديدون بصعوبة الدلال الذي تعرفه إسرائيل رغم تجاوزاتها وظلمها للشعب الفلسطيني، ولكن أن يصل الأمر والاستسلام ومراعاة تغلغل إسرائيل في المجالات الاقتصادية والمالية والدوائر الانتخابية وصناع الرأي العام في الدول ذات المصالح مع إسرائيل، إلى درجة تدمير نضالات النخب عبر التاريخ والإطاحة بخطط العالم المستقبلية والمس برمزية مفاهيم يشتغل عليها مفكرو العالم من أجل تغيير قيمي ثقافي ينتصر للإنسان وحقوقه، فكل هذا يمثل نوعاً من الجنون غير الواضح.

ما يحصل حالياً يشبه الدائرة المفرغة. كما أن من الجدير التركيز عليه من الآن فصاعداً أن الحرب ما زالت متواصلة وفق الخطة الإسرائيلية الواضحة جداً، هو أنه كلما طالت هذه الحرب أكثر وارتفع بطبيعة الحال عدد القتلى وازداد حجم الدمار، فإن قائمة المتورطين في هذه الحرب ستتوسع ولن تقتصر على إسرائيل فقط.

نعم التاريخ لا يرحم والمستقبل أكثر قسوةً من الحاضر نفسه. فالصمت والموقف الغامض وعدم تقدم الدول المؤثرة في مجلس الأمن بخطة واضحة لمنع الجريمة من الاستمرار... فإن كل هذا سيدونه التاريخ.

ولسنا نبالغ إذا قلنا إن ما تفعله إسرائيل من شهر أكتوبر إلى اليوم هو مسح بالدم لكل القضية الفلسطينية، حيث إن حربها راديكاليةٌ جملةً وتفصيلاً، وهي حرب لحسم أمر التعايش بين الشعبين والاستيلاء على كل شيء وقتل صاحب الأرض والحق وتهجيره.

ما يحدث في غزة صادم وعدم إيقاف آلة الحرب وفرض الوقف الفوري لإطلاق النار أكثر صدمةً وإيلاماً. ما زال هناك ما يمكن أن يفعله العالم من أجل منع بقية أطوار الجريمة من الحدوث.