يقع موقع «الرجاجيل» على بُعد 20 كلم جنوب مدينة سكاكا، التي تعدّ حاضرة منطقة الجوف، ومقرّ إمارتها شمال المملكة العربية السعودية، عند الأطراف الشمالية لصحراء النّفُود الكبير، وذلك على الحافّة الجنوبية الشرقية لوادي السرحان. ونتيجة لما شهدته الجزيرة العربية من أحوال مناخية نتج عنها ظهور البحيرات الطبيعية، والواحات الغنّاء، وانتشار المراعي الواسعة، وذلك في عصورها القديمة، التي كانت عوامل جذب للمجتمعات الرعوية إلى هذه المناطق التي يتوفر فيها كل ما يحتاجه البشر والحيوانات ومختلف الكائنات للعيش والاستيطان في أنحاء الجزيرة العربية. وقد أثبتت الدراسات الأثرية أنّ موقع «الرجاجيل» كان ضمن المناطق التي ازدهرت خلال العصور المطيرة الدافئة.
وكانت المجتمعات البشرية التي عاشت في تلك الفترة تقيم بالقرب من مدافن أجدادهم والأماكن المرتبطة بأسلافهم ومعتقداتهم، فضلاً عن حرصهم على الاستقرار في المناطق التي تتوفر بها مصادر الماء.وقام سكّان الرجاجيل ببناء مساكنهم وآبارهم ومقابرهم، وكانوا يمارسون الصناعة والصيد، كما أظهرت اللقى الأثرية التي كشفت لنا معلومات عن أسلوب حياتهم، وبقايا أدواتهم، بأنّ فترة ازدهار الموقع كانت قبل ظهور الكتابات، وقبل قيام الممالك والدول التي بدأت بالظهور في تلك الفترة في المنطقة، حيث إنّ البشر الذين عاشوا في ذلك العصر كانوا مجتمعات قبلية تتنقل في نطاق جغرافي معين؛ يبحثون عن مواضع تتوفر فيها وسائل العيش لهم ولقطعانهم.
وقد ترك لنا الإنسان الذي عاش هناك ألواحاً حجرية منصوبة، وبعض الآبار، والمنشآت المائية، والمقابر، والرجوم، وغيرها. وقد سُمّي الموقع بـ«الرجاجيل»؛ لأن الأعمدة الحجرية المنصوبة بشكل بارز، والمنتشرة في الموقع تبدو لمن يراها من بعيد وكأنها مجموعاتٌ من الرجال؛ لذا سُمّيت «الرجاجيل»، على أنّ الكلمة صيغة جمعٍ لكلمة رجال باللهجة المحليّة، وهي تسميةٌ حديثةٌ.
يعدّ موقع الرجاجيل مثالاً حياً على المستوطنات التي استقر فيها الإنسان في عصور ما قبل التاريخ، أي ما قبل ظهور الكتابة، كما يعدّ نموذجاً فريداً صمد منذ آلاف السنين حتى يومنا هذا ليعكس لنا شكلاً من أشكال الحواضر التي أقامتها المجتمعات الرعوية قبل مرحلة التحول من عصر المجتمعات القبلية إلى عصر الممالك والدول. من خلال هذا الموقع نستطيع أن نتصور كيف عاش الإنسان في الجزيرة العربية خلال العصر النحاسي، فندرة الرسومات والفنون الصخرية في الموقع وما جاوره دليل على أنه موغل في القدم، وأن الذين عاشوا فيه هم أقدم من الشعوب التي برزت إمبراطورياتهم في عصور ما بعد الكتابة، وبذلك يُعد موقع الرجاجيل أحد براهين العمق الحضاري وقِدم الاستيطان البشري في شمال الجزيرة العربية، ويُلقِي الضوء على نمط حياة الإنسان في منطقة الجوف قبل سبعة آلاف عام.