عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

زلزال «مراكش» وطوفان «درنة»

استمع إلى المقالة

الضحايا بالآلاف والمصابون مثلهم، في كوارث طبيعية لم تخلُ من مشاركة الإنسان بقصدٍ وبغيره، ومصائب البشر هي محل التعاطف التام إنسانياً ومحل المساعدة الممكنة والعاجلة، وقد أصبح التعاطف عاماً بانتشار وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، والمساعدة ممكنة بسبب تطور آليات عمل المنظمات الدولية.

وفاة إنسان واحدٍ جراء هذه الكوارث مصيبة، ولكن الأرقام المعلنة أكبر بكثيرٍ، ما يجعل المصاب جللاً في المدينتين، مراكش المغربية ودرنة الليبية، ورغم أن ما أصاب مراكش وما جاورها زلزالٌ طبيعي ومساحته الجغرافية كبيرة وتأثيراته واسعة فقد قُدّر عدد الضحايا بـ3000 والمصابين بـ5000 والأعداد ليست نهائية، بينما في درنة الليبية ذات المساحة الضيقة نسبياً ونتيجة لإعصار «دانيال» وانهيار السدود فقُدر عدد الضحايا بـ11000 والمفقودين بـ10000 والمهجرين بـ40000، وإنما كتبت الأعداد بالأرقام لا الحروف ليتضح الفارق الكبير بين الحادثتين وأثر كلّ منهما.

في زلزال المغرب كان للبنية التحتية والعراقة التاريخية أثرٌ في الكارثة؛ فالمغرب بلدٌ معرقٌ في التاريخ، وكثير من مبانيه تُعدّ من الآثار المهمة لقدم الحضارة الإنسانية فيه، والمباني البعيدة عن المدن يتوارثها أصحابها لعقودٍ من الزمن، وبالتالي فهي لا تحتمل الزلازل القوية، وغالب ضحايا الزلازل إنما يأتي من المباني، والمناطق التي ضربها الزلزال ليست مهيأة لمثله، كما في اليابان على سبيل المثال، حيث المباني بُنيت في الأساس لتواجه قوة الزلازل التي تصيبها عادة بشكل متكرر، وهذا شأن يصح في أي قراءة للبنية التحتية لأي بلدٍ بحسب طبيعته، وأذكر قبل سنواتٍ تعطل النقل العام في لندن، بسبب تساقط الثلوج وسخرية طفلة قادمة من السويد ومعتادة على الثلوج من هذا الحادث الغريب.

في درنة الليبية كان دور الإنسان أكبر، فتشكل إعصار في البحر الأبيض المتوسط ليس أمراً معتاداً ومتكرراً، ولكن ثمة تحذيرات سبقته، وأهم من هذا أن السدين المقامين على الوادي الذي يصبّ في درنة قديمان، وصيانتهما ليست بمستوى قيمتهما، وهما غير مهيأين لمواجهة أمطارٍ غزيرة في وقتٍ قصير جداً، وأمرٌ آخر هو أن بعض المباني قد بُنيت في مجرى سيل الوادي، الذي، وإن كان جافاً لأزمنة طويلة، فإن البناء في مجاري السيول خطرٌ محدقٌ، وإن تطاول الزمن.

يتداول السعوديون وغيرهم حِكَماً متوارثة تتحدث عن خطر البناء في مجاري السيول، وأن «السيل يدل مجراه»، وتحذر من الاعتداء على «حرم وادي السيل»، وهذه الحكم هي خبرة السنين التي تتوارثها الأجيال، ويستوي في هذا سكان الحواضر والبوادي في مقولاتهم وتصرفاتهم تجاه مجاري السيول على مر التاريخ.

ليس بين المآسي تفضيلٌ، ولا في المصائب شماتة، ولكن بعض الحوادث، رغم قسوتها، تستوجب التأمل والتعقل؛ ففي المغرب استقرار سياسي ضاربٌ بأطنابه وفي مثل هذا المصاب تتكشف فائدته بسرعة الإفاقة من الحادثة وتجاوزها بأقل الأضرار، بينما الاستقرار السياسي مفقودٌ في ليبيا ذات الحكومتين المتناقضتين الوارثتين لفوضى مستقرة وتدخلات أجنبية لا تنتهي.

قيمة الاستقرار السياسي هي قيمة جوهرية وأساسية في أي دولة أو كيانٍ سياسي على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، ومن دونه لا تكون دولة ولا أمنٌ ولا رخاء، والجدل في قيمته إنما يأتي من التيارات الثورية التي تجعل الثورات قيمة بحد ذاتها، وتمجدها من أي شكل أو لونٍ كانت، وهذا أقرب إلى العبث، ويمكن في منطقتنا تذكّر كيف رحَّبت التيارات اليسارية بثورة الخميني التي يُفترض أنها النقيض لفكرها وتوجهاتها، وقبلها أولع العسكر بالانقلابات العسكرية في العالم العربي، وسموها ثوراتٍ بغرض ترويجها، ولم يجنِ العرب من تلك الانقلابات وعسكرها خيراً.

للتأكيد على قيمة الاستقرار السياسي في مواجهة النكبات والكوارث، فقبل أشهرٍ ضرب زلزالٌ واحدٌ دولتين في شرق المتوسط، تركيا وسوريا، وضرب من سوريا تحديداً المناطق التي تسيطر عليها ميليشياتٌ متعددة مدعومة من جهاتٍ خارجية متنوعة. في تركيا وبسبب استقرار الدولة تجاوزت الدولة والمواطنون آثار الزلزال بسرعة كبيرة، مقارنةً بحال جارتها الجنوبية، بينما في سوريا ما زالت آثار الزلزال قائمة حتى اليوم وتبعاته لم تنتهِ ولم يتجاوزها الناس.

بعكس الدولة المغربية الملكية المستقرة، فإن الدولة الليبية مرت بمراحل مختلفة، من انقلاب القذّافي على الدولة السنوسية والملك إدريس إلى ما كان يُعرف زوراً بـ«الربيع العربي» و«استقرار الفوضى»، والقصة شهيرة حين كان البعض يهتفون: «نريد إبليس ولا إدريس» قبل انقلاب القذّافي 1969، وصولاً لقتل ميليشيا أصولية لمعمر القذافي 2011 بعد فترة حكمٍ دامت لأكثر من 4 عقودٍ، ولم تزل ليبيا تعيش مرحلة «استقرار الفوضى» إلى اليوم، ويعيش مواطنوها في تجاذباتٍ سياسية وعسكرية بين شرقٍ وغرب، والتدخلات الأجنبية في ليبيا لم تتوقف يوماً؛ من دولٍ كبرى وأخرى إقليمية تسعى للسيطرة على ليبيا، وليبيا محل أطماعٍ دائمة، فهي دولة نفطية غنية جداً وذات مساحة شاسعة وتعدادٍ سكاني صغيرٍ، ثم إنها تستطيع تصدير نفطها بعيداً عن المضايق البحرية وإيصاله لأوروبا وكل العالم بسهولة ويسرٍ.

مِن أقبح ما أورثه خطاب الجماعات المتطرفة للمجتمعات لغة الشماتة بالمصائب، فكلما حلَّت مصيبة ببلدٍ علت أصوات خطباء ومفتين ووعاظ بأن ذلك بسبب ذنوب أهل ذلك البلد وكبائر يرتكبونها، وهو خطاب شماتة لا علاقة له بدين الإسلام ولا بمكارم الأخلاق، وكان يُراد به تحشيد الأتباع ورص الصفوف، وهو وإن خفّ فإنه لم ينقطع، وبقيت له شواهد متفرقة بنفس المبررات السابقة وذات اللغة الممجوجة.

بسبب «وسائل التواصل الاجتماعي» فقد تمكن كثيرٌ من الناس حول العالم من مشاهدة مصاب «درنة» في مقاطع مصورة تفطر القلوب وتثير التعاطف، وساعد الاستقرار الدولي في تهيئة الأجواء لسرعة إغاثة تكفلت بكثير منها السعودية ودول الخليج العربي، وبقيت المشكلة الكبرى عدم استقرار الدولة الليبية نفسها التي ما زالت تمنع من اتخاذ أي إجراءات فاعلة لاستيعاب الكارثة والتعامل مع تبعاتها الخطيرة؛ في التعامل مع الجثث والأوبئة التي قد تنتشر في مناطق المأساة.

أخيراً، في مراكش المغربية ودرنة الليبية، ما زالت أرقام الضحايا والمصابين والمفقودين والمهجرين غير نهائية للأسف، والفارق سيكون في التعامل مع آثار الكارثتين.