منذ نحو 15 ألف سنة، عرف إنسان ما قبل التاريخ المعاول المصنوعة من قرون الغزلان وعظام الخيول في حفر الأرض لاستخراج معادن خام، لصنع أدوات وأسلحة صيد متواضعة. وقبل 3500 سنة، تعلم الإنسان كيفية تكسير الصخور الجبلية لفتح أنفاق لتخزين المياه أو ممرات لقبور قدماء العراقيين والمصريين.
في القرن التاسع عشر، ازدادت أهمية بناء الأنفاق، وخاصة مع تطور السكك الحديدية وخطوط الغاز وتصريف مياه المجاري. لكن التطور الحقيقي والمذهل حدث عام 1863 حين تم افتتاح أول محطة قطار أنفاق في لندن، وهي أيضاً أول محطة أنفاق في العالم، تلتها محطة أنفاق طوكيو عام 1872. ومن الطرائف أن محطة قطار أنفاق موسكو، وهي الثالثة في العالم، وافتتحت عام 1935، قد واجهت معارضة من رجال الدين في الاتحاد السوفياتي بحجة أنه لا يجوز لأي شخص أن يتجول في «العالم السفلي». إلا أن الزعيم الشيوعي جوزيف ستالين أصرّ على تنفيذ المشروع وتشغيله، وتم استخدامه كملجأ من القذائف الألمانية، وبلغت سعته نصف مليون شخص. ودارت الأيام، فلجأت أوكرانيا هذا العام إلى محطة قطار كييف لحماية المدنيين من الصواريخ والقنابل.
هذه المقدمة عن حفر الأنفاق، سواء في الجبال أو السهول، مجرد «سَلطة خضراوات بالزيت والزيتون» لابتلاع مشروع نفق جبلي، بدأت إيران منذ عام 2016 في تنفيذه على حدود العراق الشمالية، بحجة قطع الطريق أمام تأسيس دولة كردية مزعومة في منطقتي السليمانية وحلبجة، وضمّهما إلى الحدود الإيرانية لتوسيع النفوذ السياسي والعسكري الإيراني. وقد بدأ «الحرس الثوري» بإنشاء قاعدة عسكرية كبيرة في جبال سورين، القريبة من ناحية سيد صادق، التابعة لمحافظة السليمانية. هذه القاعدة تضم صواريخ ومُسيرات ومعسكراً لـ«الحرس الثوري». وذكرت مصادر إخبارية أن عدداً من ضباط وقادة «الحرس» يتردَّدون على القاعدة، ويشرفون على إنشاء القاعدة وحفر النفق الذي يقطع المنطقة الجبلية بين الجانبين، لتسهيل حركة نقل الأسلحة والجنود إلى القاعدة.
وفي ظل هذا المخطط، كشفت طهران انتشار عناصرها وجواسيسها في إقليم كردستان العراق تحت ذريعة انتشار أكراد إيران المعارضين للنظام الإيراني هناك. ويوجد مركز لـ«قاعدة رمضان» التابعة لـ«الحرس الثوري» الإيراني في مدينة السليمانية، بالإضافة إلى مراكز للمخابرات الإيرانية التي تعمل تحت غطاء الشركات الإيرانية في السليمانية ومعظم المحافظات العراقية، وخاصة في النجف وكربلاء. كما استقرت عناصر «الوحدة 400» التابعة لـ«فيلق القدس» المرتبط بـ«الحرس الثوري» في السليمانية، وهذه الوحدة مسؤولة عن تنفيذ العمليات العسكرية والمخابراتية خارج الحدود الإيرانية لمراقبة وتصفية كل من يقف في وجه المشروع الإيراني، وتنشط في هذه المناطق الطائرات المروحية الإيرانية أيضاً.
ونعود إلى ما بدأنا به، فإن «الحرس الثوري» الإيراني استأنف تنفيذ مشروع نفق جبلي يربط بين الأراضي الإيرانية والأراضي العراقية. وكان المشروع قد توقف خلال الحرب بين البلدين في الثمانينات من القرن الماضي. وهذا النفق الحربي يربط المنطقة الجبلية بين الجانبين لتسهيل نقل الجنود والأسلحة من القاعدة وإليها.
وهذه المناطق المتاخمة للحدود المشتركة، كانت لعقود طويلة ممرات جبلية بالغة الخطورة لصعوبة مسالكها، ولذلك يلجأ إليها المهربون من تجار الأسلحة أو الهاربين من السجون والمعتقلات من الجانبين العراقي والإيراني. ويطلق عليها اسم الجبال الألبية، نسبة إلى جبال الألب الأوروبية. وخلال الحرب العراقية - الإيرانية، أتيح لي أن أوفد لتغطية القطعات العسكرية العراقية في تلك المنطقة، وبرفقتي المرحوم فرات الجواهري، نجل الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري. وبالكاد يمرّ المتسلقون واحداً بعد الآخر، والمشكلة إذا قابلنا جنوداً عراقيين هابطين، وهم يحملون جثثاً أو جرحى، فنضطر إلى التنحي جانباً قدر الإمكان. ولم تنقذنا من تلك المخاطر إلا هضاب صغيرة هنا أو هناك لاستراحة قصيرة، ثم نواصل المغامرة. والفرق بيننا وبين متسلقي جبال الألب من الرياضيين أنهم يحملون معدات يدوية وأحذية خاصة، أما نحن فلم نكن نفكر إلا بكيفية الهبوط بعد إجراء مقابلات صحافية مع ضباط عراقيين، لأن الهبوط أصعب كثيراً من الصعود بحكم الجاذبية الأرضية. ولذلك، فإن الإيرانيين بدأوا بفتح أنفاق في الجبال التي تُستخدم عسكرياً أو إرهابياً. وهذه الأنفاق ليست سرية، وأعلنت طهران مراراً أن قوات الأمن الإيرانية دأبت على الاشتباك المسلح مع جماعات كردية إيرانية معارضة على الحدود المشتركة مع العراق طوال الأعوام الماضية.
وقد كثّف «الحرس الثوري» مؤخراً عملياته ضد ما يصفها بأنها «جماعات إرهابية انفصالية تتخذ من الشمال الكردي العراقي مقراً لزعزعة الأمن في إيران»، خاصة مع دخول الاحتجاجات التي أعقبت وفاة الشابة الكردية مهسا أميني شهرها الثالث. واعترفت طهران بأن «الحرس الثوري» يواصل قصف مقرات الأحزاب الكردية المعارضة بالمدفعية والصواريخ والمُسيرات.
وتصف طهران أحزاباً كردية معارضة لها، نقلت نشاطها المؤيد للاحتجاجات، مثل حزب الحياة الحرة لكردستان، والحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني، وحزب كوملة، بأنها «إرهابية مسلحة». وكشف الباحث السياسي الإيراني حسن هاني زاده أن التقارير الأمنية الإيرانية تحدثت عن تسلل نحو 1200 كردي معارض عبر الحدود المشتركة إلى إيران من 50 قاعدة تابعة لهم في شمال العراق.
وبصرف النظر عن الاتهامات المتبادلة بين الجانب الإيراني والجانب العراقي، فإن حكومة إقليم كردستان لم تلجأ إلى جيشها الرسمي من البيشمركة للرد على القصف الإيراني المعادي، وإنما اكتفت ببيانات التنديد والاحتجاج، وهو ما كررته وزارة الخارجية العراقية رسمياً. ومع هذا الرد البسيط وصمت الأحزاب العراقية الموالية لإيران، فإن حفر الأنفاق الجبلية الإيرانية لدخول السليمانية والمدن التابعة لها يخرق سيادة العراق وأمنه واستقلاله، بالإضافة إلى القصف التركي والإيراني.
وطبعاً لا توجد دولة مسالمة في العالم تسمح لدولة إرهابية بحفر نفق داخل جبل حدودي مشترك.
8:2 دقيقه
TT
هل هناك ضوء في آخر النفق؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة