حسام عيتاني
كاتب وصحافي لبناني لديه عدد من المؤلفات؛ منها: «الفتوحات العربية في روايات المغلوبين»، إضافة إلى ترجمات ومساهمات في دوريات عربية مختلفة. انضم إلى كتّاب «الشرق الأوسط» في عام 2018.
TT

اللغة كعنصر سياسي في أوكرانيا والعالم العربي

قضايا شائكة عدة طرحتها الحرب الروسية على أوكرانيا. لعل من أكثرها حدة القضية القومية، إلى جانب مسائل السيادة الوطنية، والحق في تقرير المصير، والأمن الدولي، والولاءات لمحاور متنافسة ومتصارعة، وعلاقات الشرق بالغرب.
معايير ما قبل الحرب الحالية لم تعد صالحة. فكرة الدولة– الأمة التي أنتجتها الحداثة الأوروبية كنقيض للإمبراطورية متعددة الأعراق واللغات التي سادت على امتداد آلاف السنين، تتعرض لاختبار قاسٍ في مناطق مختلطة اللغة والعرق، مثل الدونباس والقرم.
وجهة النظر الرسمية الروسية تدمج بين النطق باللغة وبين الانتماء القومي. يشدد الروس -على غرار ما فعل الرئيس فلاديمير بوتين في عديد من خطاباته- على التمييز بين الانتماءين القومي والعرقي. ثمة كثير من أبناء الأعراق غير الروسية في القوقاز وسيبيريا والشرق الأقصى، بيد أن عديداً منهم قد تبنى اللغة الروسية، وتخلوا إلى حد بعيد عن لغتهم الأم. في المقابل، ثمة شعوب تعيش في إطار الاتحاد الفيدرالي الروسي، وتتمسك بتراثها اللغوي والأدبي.
المسألة تتخذ طابعاً سياسياً ودموياً في أوكرانيا. منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، أصرت موسكو على المطالبة بوضع خاص لشبه جزيرة القرم. المشكلة الأولى تمثلت في أسطول البحر الأسود السوفياتي الذي كان يتخذ من سيفاستوبول مركزاً له، واعتبرته روسيا جزءاً من الإرث الذي ينبغي أن يعود لها. في 2014، تحركت القوات الروسية واجتاحت القرم، وأشرفت على استفتاء انتهى بالانضمام إلى روسيا. واندلعت في السنة عينها الحرب في إقليم الدونباس؛ حيث أقام الانفصاليون المتحدثون بالروسية «جمهوريتين» اعترفت بهما موسكو قبل ساعات من بدء القتال في أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي.
لكن، هل يكفي التحدث بالروسية لاعتبار سكان شرق أوكرانيا من الروس؟ ويمنح هؤلاء، بالتالي، الحق في تقرير المصير والاستقلال أو الانضمام إلى روسيا؟ بكلمات ثانية: هل تشكل اللغة المشتركة عنصراً حاسماً في بناء الهوية القومية؟ أو أن على هذه الأخيرة أن تعترف بالحدود الوطنية وتقف عندها؟
في السياق الأوروبي، يتشارك كثير من الدول في اللغات؛ بل تتعدد في الدولة الواحدة اللغات المعترف بها وطنياً ومحلياً. إسبانيا مثال على التنوع اللغوي بين القشتالية (الإسبانية الرائجة) والغاليثية والباسكية والكاتالونية. للغتين الأخيرتين امتداد في فرنسا؛ لكن المطالب القومية الكاتالونية والباسكية لا تجد أصداء قوية لها هناك. في سويسرا وبلجيكا متحدثون بالفرنسية؛ لكنهم سويسريون وبلجيكيون أولاً، ولا مطالب انفصالية جدية عندهم أو رغبة في الالتحاق بفرنسا. تميزهم اللغوي يحيا في إطار الدولة المتعددة اللغات والقوميات.
في عدد من الدول العربية، تتضافر المشكلة اللغوية مع القومية. ثمة دول تتجاهل تماماً التعدد اللغوي لشعوبها، بينما تعترف أخرى بالأمر الواقع اعتراف المضطر. في الحالة الكردية على سبيل المثال، كانت اللغة إحدى القواعد التي قامت عليها الهوية الكردية في العصر الحديث، على الرغم من انقسام اللغة ذاتها إلى فرعين رئيسين (السوراني والكرمنجي). وحتى اليوم، لم تعترف السلطات السورية باللغة الكردية لغة رسمية، على الرغم من أن جزءاً من الأراضي السورية (مناطق الإدارة الذاتية) هو في حكم الكيان الكردي شبه المستقل، مقابل حصول اللغة الكردية على اعتراف رسمي في العراق. وسارت الأمازيغية في المغرب والجزائر مساراً طويلاً حققت فيه بعض التقدم للتحول إلى لغة رسمية. وربما يكون الوضع في الجزائر أصعب وأكثر تعقيداً مما هو في المغرب في هذا المجال، ما يحيل مجدداً إلى التداخل بين العاملين السياسي والثقافي/ اللغوي.
أما في لبنان، فيتبنى قسم من السكان الكلام باللغة الفرنسية تبنياً شبه كامل في حياتهم اليومية. وظهرت في العقود الأخيرة مجموعة تمارس الممارسة ذاتها إنما بالإنجليزية بحيث لا يتوجهون لأطفالهم بغير هذه اللغة. تكمن أسباب تاريخية- اجتماعية- نفسية، كُتب عنها الكثير وراء هذه الظاهرة؛ بيد أن هؤلاء جميعاً يكونون عند كل استحقاق انتخابي في مقدمة المقترعين لزعماء طوائفهم وقراهم وعشائرهم. اللغة لم تمحُ العصبية والولاء للجماعة وقيمها في هذه الحالة، ولم تستبدل بها قيماً أكثر مدنية كنبذ الالتحاق بالطائفة والمنطقة، وإعلاء الانتماء إلى دولة متعددة الطوائف.
عليه، ليست اللغة عنصراً حاسماً في تشكيل الانتماء الوطني. كما أن ليس كل الناطقين بالفرنسية في قرى لبنان وشوارع مدنه يتحدرون من كلوفيس وشارل مارتيل، كما لا تمُتّ الأُسر التي تستعرض إنجليزيتها في المطاعم والمقاهي، بصلة نسب إلى الملكة فيكتوريا. كذلك الأمر بالنسبة إلى المتحدثين باللغة الروسية المنتشرين في عديد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق. غني عن البيان أن لهؤلاء قضاياهم التي تعبر عنها أحزاب سياسية في الدول التي يقيمون فيها، ويشاركون في الانتخابات باسمها وتحت مظلتها.
لكن السؤال هو: أين تقع الحدود بين الوطني والثقافي/ اللغوي؟ الشرط الضروري للتفكير في المسألة هذه هو عدم تعرض الأقليات اللغوية والعرقية إلى التمييز والاضطهاد. الشرط السياسي، إذن، هو الركن الأول لنشوء دول متعددة اللغات والثقافات والأعراق.