د. عبد الحق عزوزي
أكاديمي مغربي متخصص في العلوم السياسية والقانون
TT

الأزمة الأوكرانية والأدوات التفاوضية الجديدة

استمع إلى المقالة

انتهت المباحثات بين وفد أميركي مكوّن من المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف، وصهر ترمب، جاريرد كوشنر، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين من دون إحراز اتفاق كبير لإنهاء حرب أوكرانيا، وسط خلافات حول ملف الأراضي وانضمام كييف لـ«ناتو». في المقابل، أكد الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن نظيره الروسي يريد إنهاء النزاع، بينما تتقدم القوات الروسية ميدانياً، وتطالب كييف بزيادة الضغط الدولي على موسكو لدفعها نحو التسوية.

أظن أنه مع استمرار المفاوضات، واشتعال السعار الكلامي بين الرئيس الروسي والقادة الأوروبيين، ستتنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها وستعطى ضمانات إلى موسكو أن كييف لن تنضم أبداً إلى الحلف الأطلسي. ولكن لماذا هذا التخوف من الحلف الأطلسي؟

على الرغم من بعض الدعم الذي تظهره دول الأطلسي من حيث المبدأ بشأن الطلب الأوكراني المتكرر للانضمام إلى الحلف الأطلسي، فإن ذلك قد يسبّب تصعيداً في النزاع؛ لأن روسيا تعتبر مثل هذا التوسع خطاً أحمر، بخاصة مع ما تتضمنه المادة الخامسة من ميثاق حلف «ناتو» من مواجهة مباشرة للحلف حال تعرض أي دولة لنزاع مُسلّح. وتنص هاته المادة على أن «أي هجوم أو عدوان مُسلّح ضد طرفٍ من أعضاء (ناتو)، يعتبر عدواناً عليهم جميعاً، ومِن حقّهم الردّ باتخاذ الإجراءات التي يراها الحلف ضرورية على الفور، بشكل فردي وبالتوافُق مع الأطراف الأخرى، بما في ذلك استخدام قوة السلاح، لاستعادة والحفاظ على أمن منطقة شمال الأطلسي».

إن الساكنة التي يسهم الحلف في وضع مظلة وقائية لها يقرب عددها من 900 مليون نسمة، أي مجموعة ساكنة دول أعضائه، كما أن عدد التحديات في تطور مستمر: الدفاع عن الحدود، الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، تحدي الهجومات الصاروخية، الإرهاب، القرصنة، إلى غير ذلك. وهذا يعني مما يعنيه كثرة المشاكل الداخلية بين الدول المكونة للحلف وصعوبة إيجاد توافقات بين دول مختلفة اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وذات تموقع جغرافي مختلف. فأميركا ليست فرنسا، وفرنسا ليست تركيا أو بولونيا. كما أن الأزمات المتتالية التي تعرفها المنطقة (الحرب في أوكرانيا، ضم شبه جزيرة القرم من طرف روسيا) تعقّد السيناريوهات التي تضعها الدول المحورية في الحلف. فروسيا ما زالت دولة نووية يمكن أن تزيل دولاً من الخريطة الجغرافية ولا يمكن مجابهتها عسكرياً وإلا دخلت المنطقة فيما لا يمكن أن تُحمد عقباه، كما أن عدم التحرك سيضع لبنات النظام الدولي في مستنقع المجهول؛ لذا فاستراتيجياً أظن أن هاته الفترة هي أعقد فترة يمر بها الحلف الأطلسي.

ثم إن دول أوروبا الوسطى والشرقية تتخوف اليوم كثيراً من روسيا بعد حرب أوكرانيا وضم القرم، وتسعى جاهدة في قمم «ناتو» إلى أن يشير الحلف صراحة في بياناته إلى أن روسيا هي العدو الأول للحلف. ولكن في مثل هاته الظروف، يرى استراتيجيو الحلف ضرورة التمتع بالحكمة الاستراتيجية في مقابل دولة نووية هي جزء رئيسي من النظام الإقليمي والنظام العالمي، ويستحيل ترك دول تفرض على الحلف تخوفات اللحظة لتؤخذ قرارات قد تقوض مبادئ التعايش مع روسيا.

وأظن أنه رغم التصريحات المتباينة من طرف رؤساء أوروبا، ودعم هؤلاء العسكري والمادي لكييف، فإن التوجه الحالي هو دفع أميركا إلى إيقاف الحرب في المنطقة، وعدم التصعيد العسكري مع روسيا وعدم دفن الاتفاق المؤسس بين روسيا والحلف.

إن مسألة التدخل الغربي الجماعي المباشر ضد روسيا يبقى أمراً مستحيلاً؛ لأنه سيضغط فيه على الزر النووي، كما أن تفعيل المادة الخامسة من ميثاق «ناتو» سيبقى رهيناً بموافقة الرئيس الأميركي ترمب، وهو ما لا يمكن أن يحدث أبداً؛ وفي الجانب الروسي فإن العقيدة الاستراتيجية للبلد لا تنظر فقط إلى الجالس الحالي على كرسي الحكم في البيت الأبيض، وإنما إلى من سيخلفه فيما بعد؛ فلا أخال روسيا ستسمح بانضمام كييف إلى الحلف الأطلسي، كما أن أوروبا بسبب ضعفها العسكري، تضع اليوم حداً لأوهام الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي: لن يتمكن الأوروبيون من استبدال دور أميركا الحاسم بوصفها موفرة للأمن.

والنتيجة، أن الأوروبيين سيقبلون سراً كل ما ستسطره الإدارة الأميركية لحل هذا النزاع؛ كما ظهر للخاص والعام أن الحلف الأطلسي لا يعني اليوم استعمال القوة بطريقة أوتوماتيكية لتحقيق النتائج المرجوة، كما أنه يحقق استراتيجية ردعية وحمائية جزئية فقط... بمعنى أن الحلف العسكري يجب أن يكون له حضور دبلوماسي في حظيرة الأمم، وأن يستعمل الأدوات التفاوضية وبأساليب مدنية، ومن هنا مسألة الحكمة الدبلوماسية والتفاوضية التي بدأ يؤمن بها القادة الأوروبيون في زمن سماته الأربع: التوجس والغموض واللايقين والمجهول، وهي سمات لا تسمح بارتكاب الخطأ.